عربي
لطالما شكّل فعل التموين بكافة أشكاله من تجفيف وتبريد وعصر وتخليل، وحتى إعداد الكونسرة المنزلية، نسقاً ثقافياً يحاول البعض حصره في سياقين اثنين، أولهما ثقافي ينتمي لبيئة وعادات غذائية مُحدّدة. وببحث سريع، نجد المئات من الفيديوهات التي تتناول هذا الموضوع، ولكن بصورة منعزلة لأشخاص يقومون بالتموين بطرق تعود للبيئة الخاصة بهم، فتكون النتيجة أقرب للدعاية. وكأنّ ما تمّ تقديمه هو فعالية ثقافية تراثية محضة، خاصة عندما يتم تصويرها في الهواء الطلق، وفي أجواء طبيعية باذخة في جمالها وسكينتها، وبأزياء تخصّ تراث منطقة جغرافية مُحدّدة، ما يشكّل حالة دعائية، جمالية وتراثية.
مع هذا السياق، يغيب العامل أو الهدف الاقتصادي لفعل المونة، ليقتصر على البعد الترويجي لنماذج ثقافية تقليدية مُحدّدة، تركّز على جمال الطبيعة، وعلى طرق التعامل مع الخيرات الطبيعية المتوفّرة. ومن هنا يبرز البعد الثاني وهو ترويج العودة إلى الطبيعة والاعتماد على المُنتجات الطبيعية في حمى الاستهلاك المُفرط للطعام المعلّب والوجبات السريعة الجاهزة والمُعدّة بأساليب غير صحية، ليتساوق البعد الثاني مع الدعوات الداعية إلى العودة إلى الطبيعة الأم ببساطتها ونقائها.
تحقّق عملية إعداد المونة بعداً أكثر أهمية، وهو انصهار البعد الاقتصادي بالبعد الاجتماعي، ما يمكن أن نصطلح على تسميته سوق عمل اجتماعي. والاقتصادي هنا ليس توفيرًا في أسعار المواد المُحضّرة فقط، بل بتثبيت شعار الاكتفاء الاقتصادي، وخاصّة للأسر الهشّة اقتصاديًا، كما تمثّل عملية التموين استغلالًا ذكياً للموارد واستثمارًا اقتصاديًا قليل التكلفة، مع تقديم عائدات اقتصادية مهمّة. كما أنّ ساعات الانشغال بهذه العملية تُعادل تمامًا عملاً مأجوراً مُنتجاً، وخاصّة للنساء اللاتي ينخرطن بشكل أساسي في هذه المهمّة.
إنّ العائد الاقتصادي المادي هنا غير ملموس، خاصّة أنّ النساء لا يتلقين المال بشكل مباشر مقابل هذا العمل. ولا يمكن التعبير عنه باعتباره محصلة رقمية للقيمة النقدية للإنتاج، بل يدخل أيضًا في حلقة الإنتاج الذي لا يُعتبر مدرّاً لدخل نقدي ثابت على الرغم من فعاليته وجدواه الاقتصادية غير المُعلنة أو المُهملة عمدًا في السياق نفسه الذي يتجاوز ويُنكر القيمة المادية والسعرية الفعلية للأعمال الرعائية التي تقوم بها النساء من دون أيّ احتساب لأجر يتقاضينه. وهنا أيضا يتم التعامل مع هامشي الأمان الاقتصادي والوفرة وكأنّ تأمينهما واجب مفروض على النساء بسبب أدوارهن الاجتماعية الرعائية داخل الأسرة.
تمثّل عملية التموين استغلالًا ذكياً للموارد واستثمار اقتصادي قليل التكلفة
تجدر الإشارة إلى أنّ ورشات عمل صغيرة تنشأ في مواسم التموين تديرها نساء وتؤمّن فرص عمل لنساء أخريات أيضاً. كما أنّ عملية التموين المنزلية تؤمّن، وبتلقائيّةِ الحاجة إلى يد عاملة، انخراط عدد من أفراد الأسرة الواحدة، حتى الأطفال وكبار السن، في هذا العمل. إذًا، يمكن توصيف هذه الحالة التي تبدو متناهية في الصغر، ولكنها كبيرة في المردود والجدوى، بأنها واحد من أشكال الاقتصاد العائلي التعاوني الذي يستثمر في قوّة العمل للجميع، كلٌ حسب قدرته ومعرفته.
إنّ تطوّر المعدّات الصغيرة المنزلية أو المُستعملة في الورشات الموسمية فائقة الصغر، وتَشارك العائلات حتى على شرائها، هو تلبية حقيقية لتغيّر أنماط الطعام والحاجة المُتجدّدة لأدوات تتماشى مع أنماط غذائية جديدة وصحية مثل أدوات تجفيف الفواكه في عملية استعاضة عن عملية صنع المربيات بعد الدعوات الصحيّة والطبيّة للتقليل قدر الإمكان من مادة السكر المُضرّة بالصحة. وتمكن الإشارة هنا إلى المكابس الحديدية صغيرة الحجم والأنيقة والقابلة للتفكيك التي تُستخدم لكبس الباذنجان لإعداد المكدوس وكبس الزيتون للتخلّص من مائه المر.
يبدو انخراط النساء في عمليات إعداد المونة أكبر من عامل دعائي وجمالي، إنّه استثمار بالغ الذكاء في الموارد مهما تقلّصت، كما أنّه ممارسة فعلية للدور الاجتماعي للنساء في الحماية والرعاية والحب.