
عربي
مع تواصل عمليات البحث عن جثث الأسرى الإسرائيليين القتلى في قطاع غزة بإمكانيات متواضعة، نتيجة عدم سماح الاحتلال بإدخال المعدات الثقيلة والحديث المتزايد عن نيّات كثيرين في المنطقة والإقليم المساعدة في هذا الجهد، يشعر أهالي آلاف المفقودين الفلسطينيين بازدواجية المعايير في التعامل مع جثامين الضحايا. وبينما تتسابق الأطراف الدولية وتتضاعف الضغوط لاستعادة جثث الأسرى الإسرائيليين في القطاع، لا يزال نحو عشرة آلاف جثمان من شهداء غزة مدفونة تحت الركام، بينهم آلاف الأطفال والنساء، استشهدوا تحت أنقاض منازلهم خلال الحرب دون قدرة عائلاتهم على وداعهم، أو دفنهم وفقاً للشعائر الدينية، أو حتى بأبسط معايير الكرامة الإنسانية.
ويعكس مشهد هذا التناقض الفاضح ازدواجية صارخة في المعايير الإنسانية والأخلاقية. فبينما تُعقد صفقات وتُمارس ضغوط دبلوماسية، وتُطرح مبادرات دولية لاسترجاع جثث الإسرائيليين، يغيب أي جهد موازٍ، أو حتى اعتراف بوجود آلاف الشهداء الفلسطينيين الذين يُفترض أن يُعاملوا بنفس القدر من الاحترام والاهتمام.
وتقول الفلسطينية سهيلة دعيس التي فقدت ابنها محمد (29 عاماً) مع ثلاثة من أطفاله تحت أنقاض منزلهم في حي الزيتون جنوب شرق مدينة غزة، إنّها تشعر بغصة كبيرة بفعل الاهتمام الكبير بالبحث عن جثث القتلى الإسرائيليين، وغياب الاهتمام بآلاف الضحايا من الشهداء الفلسطينيين الذين قضوا تحت الأنقاض منذ أشهر طويلة. وتتابع دعيس حديثها لـ"العربي الجديد" بحسرة: "العمارة السكنية التي كان يستأجر فيها ابني انهارت فوق رؤوس ساكنيها دون أي تحذير، وقد ابتلع ركامها أجساد أطفاله، ولم نتمكن سوى من انتشال جثمان الطفلة رؤى، والتي طارت بفعل قوة الانفجار إلى إحدى زوايا المبنى المنهار"، وتضيف: "كل ما أتمناه الآن هو أن أتمكن من وداعهم وأن ألمس جباههم، وأقرأ الفاتحة وأنا أراهم أمامي حتى وإن كانوا هياكل عظمية، وأن يجري دفنهم على نحوٍ لائق بكرامتهم الإنسانية"، مبينة أن "هذا الحلم البسيط ممنوع عليها، إذ تنصبُّ الجهود على استخراج جثث المحتجزين القتلى، وهو ما يمزق قلبي بفعل التمييز الصارخ وغير المبرّر".
جثامين شهداء غزة تحت الركام
وتشاركها في الألم ذاته الفلسطينية مها سعد من حي الدرج وسط مدينة غزة، إذ مسحت أسرة ابنها عماد من السجل المدني، بعد قصف الاحتلال للمربع السكني الذي نزحت إليه، فيما لم تتمكن من تقبيل جبين ابنها وزوجته وأطفاله المفقودين تحت الركام من الشهر الثالث لبدء العدوان. وتبين سعد لـ"العربي الجديد" أن الحزن والحيرة لا يزالان ينهشان جسدها وروحها، إذ لم تعد تعرف هل تنعى أسرة ابنها أم تبحث عنها بين الأنقاض، وتقول: "حاولنا مراراً إزالة الركام بإمكانيات بسيطة، إلّا أن كمية الدمار الواسعة والقطع الإسمنتية الكبيرة تتطلب معدات غير متوفرة بفعل المنع الإسرائيلي لدخولها"، وتقول سعد: "كلما رأيت محاولات استرداد جثث الجنود الإسرائيليين، أشعر أني أعيش في عالم لا يعترف بإنسانيتي. هل من العدل أن يبذل كل هذا الجهد لجثة، بينما نحن نُنسى تحت الأنقاض؟ كل ما أريده هو أن أحزن كما يجب، أن أبكي على قبور لا على أطلال وركام".
وإلى جانب فَقد العديد من العائلات الفلسطينية أحبابها تحت الأنقاض وسط تجاهل دولي، تعاني من عجز تام عن معرفة مصيرهم أو حتى إقامة طقوس الوداع الأخيرة لهم بفعل النقص الحاد في المعدات الثقيلة والآليات اللازمة لرفع الركام وانتشال الضحايا، ما يجعل من مشهد الركام شاهداً صامتاً على مذبحة مكتملة، وعلى مآسٍ عالقة لا تجد سبيلاً للانتهاء.
من ناحيته، يبين الفلسطيني ناصر صيام (46 عاماً) الذي فقد زوجته وطفلته سجى (7 أعوام) تحت أنقاض منزل عائلة زوجته، التي نزحت مع اشتداد القصف على حي تل الهوا جنوب مدينة غزة، أن جثامينهم لا زالت مدفونة تحت الركام، بينما لم يتمكن من دفنهم كما يجب حتى الآن. ويقول صيام لـ"العربي الجديد": "في يوم واحد فقدت زوجتي وابنتي عندما كنت أبحث مع ابني خالد عن مكان لإقامة خيمة بعيداً عن منزل عائلة زوجتي المكتظ بالأقارب، لكنّنا فوجئنا بقصف راح ضحيته قرابة 20 شهيداً، كان من بينهم زوجتي وطفلتي، إلى جانب إصابة ابنتي الوسطى بجروح خطيرة لا زالت تعاني من آثارها حتى اللحظة"، ويضيف صيام بقلب محروق: "مضى أكثر من 11 شهراً، ولا تزال الجثث تحت الركام، كل يوم أذهب إلى المكان، أضع يدي على ركام البيت المنهار، وأتخيلهم تحته، قلبي لا يعرف الراحة، عندما أرى كيف يُعامل موتى الطرف الآخر وكأنهم قديسون، أشعر أن العالم لا يرى موتانا، ولا يسمع بكاءنا. نحن لا نحتاج سوى لحفار حتى نتمكّن من وداع أحبابنا".
