صحافة أوروبا بين نار المافيا وضغوط السياسة
عربي
منذ 4 ساعات
مشاركة
في تصعيد خطير يستهدف حرية الصحافة في قلب أوروبا نجا الصحافي الاستقصائي الإيطالي سيغفريدو رانوتشي من محاولة اغتيال مساء الخميس الماضي، بعد انفجار سيارته أمام منزله في بلدة بوميتسيا على مشارف العاصمة روما. ورغم عدم وقوع إصابات، خلّف الانفجار أضراراً مادية جسيمة، وأعاد إلى الواجهة الخطر المتزايد الذي يتهدد الصحافيين في إيطاليا: الترهيب المنهجي من الجريمة المنظمة والضغوط السياسية المتصاعدة. يُعد رانوتشي، مقدم برنامج التحقيقات الشهير "ريبورت" على التلفزيون الرسمي الإيطالي RAI، من أبرز الصحافيين الاستقصائيين في أوروبا. يخضع لحماية أمنية منذ عام 2009 بسبب تحقيقاته الجريئة حول الفساد، والمافيا، والروابط المشبوهة بين السياسة والجريمة المنظمة. وتُحقق الشرطة حالياً في احتمال تورط عصابة "ندرانغيتا"، إحدى أقوى منظمات المافيا في أوروبا، في محاولة اغتياله، خصوصاً بعد توجيه اتهامات سابقة إلى العصابة بتدبير هجمات ضده عام 2021. ورغم إدانة رئيسة الوزراء في إيطاليا جورجيا ميلوني الهجوم ووصفها له بأنه "عمل ترهيب خطير"، وفق وكالة إنسا، تشهد العلاقة بين رانوتشي وحزبها الحاكم "إخوة إيطاليا" توتراً واضحاً. فخلال العام الماضي، رفع الحزب دعوى تشهير ضد الصحافي وبرنامجه، على خلفية تقارير ربطت شخصيات منه بشبكات الجريمة المنظمة. حرية الإعلام في إيطاليا... مؤشرات مقلقة وفق منظمة مراسلون بلا حدود، تراجعت إيطاليا إلى المرتبة 49 عالمياً في مؤشر حرية الصحافة لعام 2025، بانخفاض ثلاث نقاط عن العام السابق. وتَعزو المنظمة هذا التراجع إلى تزايد الملاحقات القضائية ضد الصحافيين الاستقصائيين، خصوصاً الدعاوى القضائية الاستراتيجية، إلى جانب الضغوط السياسية على الإعلام العام ومحاولات توجيه تغطيته عبر التعيينات الحزبية. كما أشارت المنظمة إلى ظاهرة جديدة تتمثل في شراء سياسيين من اليمين المتشدد لوكالات أنباء، من بينها وكالة AGI التي انتقلت ملكيتها إلى نائب في حزب حاكم، ما يثير مخاوف من تداخل المال بالسياسة والإعلام. وأثارت مشاريع القوانين الجديدة، وعلى رأسها ما يُعرف بـ"قانون تكميم الأفواه" (legge bavaglio)، جدلاً واسعاً في الأوساط الإعلامية الإيطالية. يسعى المشروع إلى تقييد نشر أوامر الاحتجاز والوثائق القضائية قبل بدء المحاكمات، بذريعة حماية سمعة الأفراد وضمان مبدأ براءة المتهم. غير أن منظمات حرية التعبير ترى فيه تهديداً مباشراً للصحافة الاستقصائية وحق الجمهور في المعرفة، خشية استخدامه لتقييد الوصول إلى وثائق التحقيق الحساسة، ولا سيما في قضايا الفساد والجريمة المنظمة. ويشير مراقبون إلى أن المناخ الحالي يشجع الرقابة الذاتية والخوف من الانتقام داخل غرف الأخبار. وبحسب بيانات رسمية، يتمتع نحو 20 صحافياً إيطالياً بحماية دائمة من الشرطة، فيما يخضع أكثر من 250 آخرين لمرافقة أمنية مؤقتة خلال تنقلهم أو في أثناء إعداد تقاريرهم. وتُقدَّر أرباح منظمات المافيا، وعلى رأسها "ندرانغيتا" و"كامورا" و"كوزا نوسترا"، بأكثر من 40 مليار يورو سنوياً، ما يجعلها قوى موازية تُرهب كل من يتصدى لها. أوروبا والاختبار الصعب... عندما تصبح الصحافة هدفاً رغم صورة أوروبا كقلعة للحريات والديمقراطية، تواجه الصحافة المستقلة في جنوب وشرق القارة تحديات متصاعدة: تحكم سياسي في الإعلام العام، وملاحقات قضائية بتهم تشهير مدفوعة، وتصاعد خطاب عدائي ضد الصحافيين يغذيه صعود اليمين الشعبوي والتشكيك الممنهج في مصداقية الإعلام. في بولندا والمجر، استحوذ حلفاء السلطة على وسائل الإعلام وفرضوا رقابة قانونية مقيّدة للنشر. وفي مالطا وسلوفاكيا، اغتيل صحافيون استقصائيون مثل دافني كاروانا غاليزيا ويان كوتشياك بسبب تحقيقاتهم في الفساد. واليوم، تأتي محاولة اغتيال سيغفريدو رانوتشي لتذكّر بأن هذا التهديد لا يزال حاضراً في قلب الاتحاد الأوروبي. كما يتعرض الصحافيون في دول عدة لهجمات جسدية من قوات الأمن أو من متظاهرين معادين للصحافة، ما يزيد هشاشة بيئة العمل الإعلامي ويُقوّض دور الصحافة سلطةً رقابيةً مستقلة. في أوروبا اليوم، تتزايد المخاوف من استخدام التهديدات الأمنية ذريعة لتقييد الحريات وفرض رقابة على الإعلام باسم "الاستقرار الداخلي". ومع تصاعد القومية الشعبوية وتراجع ثقة الجمهور بالإعلام، تجد الصحافة نفسها أمام معركة مزدوجة: الدفاع عن استقلالها في مواجهة السلطة، والحفاظ على مصداقيتها أمام جمهور متشكك. محاولة اغتيال سيغفريدو رانوتشي ليست حادثاً معزولاً، بل تعبير عن واقعٍ يتقاطع فيه عنف المافيا مع ضغط السياسيين وثقافة الصمت الشعبي. في مثل هذا المناخ، تغدو حرية الصحافة معركة يومية تُخاض في المحاكم، وفي غرف الأخبار، وفي الشوارع التي يخيم عليها الخوف. فالدفاع عن الصحافة الاستقصائية اليوم، هو دفاع عن الديمقراطية ذاتها وعن حق المجتمع في المعرفة والمساءلة.

أخبار ذات صلة.

( نوافذ يمنية) محرك بحث إخباري لا يتحمل أي مسؤولية قانونية عن المواد المنشورة فيه لأنها لا تعبر عن رأي الموقع..

جميع الحقوق محفوظة 2025 © نوافذ يمنية