السودان: مليشيا لكل مواطن!
عربي
منذ 13 ساعة
مشاركة
تدخل الحرب الأهلية السودانية النصف الثاني من عامها الثالث. عامان ونصف العام منذ "الرصاصة الأولى". الإجابة عن سؤال عمن أطلق هذه الرصاصة ليس سؤالاً للتاريخ، ولا حتى للمحاسبة. إنه ليس سؤالاً أصلاً، فموقفك من الحرب يحدّد إجابتك، أنت لست حرّاً لتجيب. وبعد تلك الرصاصة، ظنّ المتقاتلون أنها نزهة أيّام سريعة. لا أعرف في تاريخ الإنسانية من تورّط في التخطيط لحرب استمرّت أعواماً. كل الذين غرقوا ظنّوا وهماً أنها ساعات (وربّما أيام)، ويتحقّق النصر، وتدين لهم السلطة والبلاد ومن عليها. حتى الإغريق وهم يبحرون نحو طروادة كانوا يظنّونها حرباً سريعة. ملأت الأكاذيب الأفق، تزاحم الطيران الحربي الذي يقصف شوارع العاصمة الخرطوم، وينافس قذائف قوات الدعم السريع التي تسقط على البيوت وساكنيها. الكذّابون تزاحموا في الشاشات ليتحدّثوا عن "اللمسات الأخيرة"، و"تمشيط الأحياء للقضاء على التمرّد"، و"محاكمة قائد الجيش المحاصر". كانت البلاد ذاهبةً إلى الخراب، وهم يؤكّدون أن الأمور استقرّت والحرب انتهت. كان ذلك في الشهر الأول. مرّ الآن ثلاثون شهراً، والحرب مستمرّة. رفض طرفاها الفرص السابقة كلّها، ونقضا كل اتفاق أُجبرا عليه. نزح ملايين السودانيين، داخل البلاد وخارجها، فيما اعتبرهم المتقاتلون وسائل ضغط أو مصادر دخل. اتفق الطرفان في جدّة على تخفيف آثار الحرب على المدنيين، ثمّ تملّصا، ليتهم كل طرف الآخر بأنه خرق الهدنة ولم يلتزم بالاتفاق. وقّعا اتفاق المنامة، ثمّ دفناه في مكان ما، ولم يعودا إلى التحدّث عنه. هل يريدان حقاً إنهاء الحرب؟ منذ الأسابيع الأولى، صرّح دبلوماسيون غربيون بعدم تفاؤلهم، فالطرفان يؤمنان بالحلّ العسكري فقط. لذلك لم يكن غريباً ولا مدهشاً أن ينزلق القتال الذي بدأ محدوداً داخل العاصمة الخرطوم بين قوتَين عسكريَّتَين حليفتَين وحاكمتَين، الجيش الرسمي السوداني و"الدعم السريع" (قاتل الحليفان معاً في دارفور، ثمّ حكما البلاد منذ 2019، ونفّذا معاً انقلاباً عسكرياً في 2021، تخلّصا به من القوى المدنية التي كانت ستستلم منهما السلطة بعد شهر حسب الوثيقة الدستورية)، ليتحوّل حرباً أهلية تأكل البلاد من أطرافها إلى أطرافها، وتنخرط فيها عشرات المليشيات القديمة والجديدة. في بعض التقديرات، كان في السودان ما يزيد عن 80 حركةً مسلّحةً عندما اندلعت الحرب (15 إبريل/ نيسان 2023). لدى أعضاء مجلس السيادة مليشيات، وزراء لديهم مليشيات، وقبائل مسلّحة، وتنظيمات مسلّحة. اليوم ترسل بعض المليشيات جنودها علناً للتدريب في دول أخرى، ويقرّر شخص كل صباح أن يمنح نفسه رتبةً عسكريةً ويجمع أنصاراً. مثل حُمّى الذهب قديماً، أصبح هناك حُمّى المليشيات، يتوالد بعضها من بعض، وينقسم بعضها عن بعض. وما كان استثنائياً في 2019 (السماح باحتفاظ الحركات المسلّحة الدارفورية بقواتها حتى الدمج المرحلي) أصبح هو الأصل اليوم. وبعد ثلاث سنوات من الحرب، ما زال خيار إنتاج المليشيات، والمزيد من المليشيات، هو الخيار المُحبّب للسلطة العسكرية في بورتسودان، ولسلطة المليشيا الموازية في نيالا. ربّما لولا بعض القوى المدنية التي فقدت كثيراً من نفوذها، وخسرت تأثيرها في الأحداث، لا يرى الجميع أزمةً في صناعة المليشيات. لذلك يصعب الوصول إلى نقاط اتفاقٍ لا تنطلق من الأرضية المشتركة ذاتها، بل لا تتّفق على ما هو الخطأ، وأن تأسيس المليشيات وتكوينها في السودان كان (ولا يزال) خطيئة كبرى، وجريمة لم ترتكب بحسن نيّة. هناك تواطؤ عام في قبول حالة "التمليش" واعتبارها الواقع الذي يجب التعايش معه، لا رفضه وتغييره. لذلك يُكرّس ذلك كل يوم بقبول السلطات ومباركتها أينما كانت المليشيات، وينشئ من لا مليشيا له مليشيا تحميه. هكذا عاد السودان القهقرى، لتصبح القبيلة والحركة المسلّحة جهات الحماية، لا النقابات وقوانين الدولة، وطريق السلطة، لا الأحزاب والعمل السياسي. وهو واقع ظلّ يمور في أطراف السودان عقوداً من دون اهتمام من المركز، بل وبتشجيع من المركز في أحوال كثيرة، مثلما فعل نظام الرئيس الأسبق عمر البشير، عندما كوّن مليشيا الجنجويد. لكن ما كان في الأطراف لم يعد كذلك. لا يبدو أن لقوات الدعم السريع أيّ دور ممكن في سودانٍ مستقبليٍّ موحّد، لكنّها تحاول أن تحوز جزءاً من البلاد تحكمه وحدها. ولكن سواء نجت الوحدة المحتضرة بأعجوبة، أو انقسمت البلاد كما يشتهي كثيرون، ما سيبقى في الخرطوم أو نيالا أو بورتسودان هو المليشيات.

أخبار ذات صلة.

( نوافذ يمنية) محرك بحث إخباري لا يتحمل أي مسؤولية قانونية عن المواد المنشورة فيه لأنها لا تعبر عن رأي الموقع..

جميع الحقوق محفوظة 2025 © نوافذ يمنية