
عربي
باتت أصوات الشكوى هي الأعلى في أسواق دمشق القديمة التي تشهد موجة من الغلاء المتصاعد، حيث رائحة التوابل والخضراوات تعبق في الأزقة الضيقة. هنا تقف رائدة سكري، أم جابر، وهي أم لثلاثة أطفال، أمام رفوف أحد المحال الشعبية، تحسب كل ليرة قبل أن تختار ما تشتريه. تقول بصوت مكسور: "كان سعر كيلو السكر قبل أسبوع تسعة آلاف ليرة سورية، واليوم وصل إلى 12 ألف ليرة. لم أعد أستطيع شراء كل ما يحتاجه أطفالي". تضع بعض السلع جانباً وتغادر بصمت، كما يفعل مئات غيرها يومياً.
هذه القصة ليست استثناء، بل انعكاس لواقع يعيشه ملايين السوريين في عام 2025 بعد سقوط نظام بشار الأسد في نوفمبر/تشرين الثاني 2024. فبعد موجة التفاؤل التي رافقت التغيير السياسي، ووعود بانخفاض الأسعار وتحسن القدرة الشرائية، عاد التضخم ليضرب بقوة فارضاً معادلة قاسية على العائلات.
ورغم تحسن بعض المؤشرات الاقتصادية الشكلية، فإن أثر ذلك لم يصل إلى موائد السوريين. ووفقاً لبيانات موقع "Trading Economics"، تراجع معدل التضخم السنوي في سورية إلى 15.87% في فبراير/شباط 2025، مقارنة مع 22.70% في يناير/كانون الثاني. لكن هذا الانخفاض لم ينعكس على الأسعار، بل استمر الإنفاق الأسري بالارتفاع، إذ تبلغ كلفة معيشة عائلة مكوّنة من أربعة أفراد نحو 800 دولار شهرياً (نحو 850 مليون ليرة سورية)، وفق ما يؤكد الخبير الاقتصادي ناصر البلخي بعد زيارة ميدانية لأسواق دمشق.
شتاء الغلاء في سورية
لا يقتصر الغلاء على السلع الغذائية. ففي شتاء 2025، أصبحت وسائل التدفئة عبئاً إضافياً على العائلات، مع ارتفاع أسعار الطاقة بشكل حاد. قفز سعر برميل المازوت من 125 دولاراً في الشتاء الماضي إلى 215 دولاراً حالياً، فيما بلغ سعر طن الحطب 200 دولار، وطن القشور 230 دولاراً. ويعزو التجار ذلك إلى الضرائب الجديدة، والاعتماد على الواردات من تركيا وإيران.
يقول خالد التركماني، تاجر وقود في دمشق، لـ"العربي الجديد"، إن "الوضع الأمني الهش والتفاهمات المتعثرة بين الحكومة الانتقالية وقسد تجعل السوق رهينة لأي تطور. إذا فشلت المفاوضات، قد تقفز الأسعار أكثر".
في المخيمات شمال غربي سورية حيث تراجع الدعم الإنساني بشكل كبير، تضاعفت الأسعار مرات عدة، تاركة آلاف العائلات تواجه البرد بلا بدائل حقيقية.
احتكار وتسعير عبر "الواتساب"
ورغم وفرة السلع في الأسواق، إلا أن الأسعار تتغير يومياً بلا ضوابط. فبحسب تجار تجزئة، يتحكم كبار الموردين في التسعير عبر مجموعات على تطبيق "واتساب"، تُسحب فيها القوائم القديمة وتُستبدل بأخرى جديدة فوراً، من دون أي رقابة حكومية فعالة.
وقفز سعر كيلو الأرز المصري من 9 آلاف إلى 12 ألف ليرة، وارتفع سعر العدس بنسبة 30% ليصل إلى 20 ألفاً. أما صحن البيض، فارتفع بنسبة 70% ليبلغ 43 ألف ليرة، ما دفع كثيراً من الأسر إلى مقاطعته.
يقول ناصر البلخي، الخبير الاقتصادي، لـ"العربي الجديد"، إن "احتكار عدد محدود من المستوردين السلعَ الأساسية جعل الأسعار رهينة تقلباتهم، فيما تبقى رواتب الموظفين ثابتة عند مستويات لا تسمح بالحد الأدنى من العيش الكريم".
رواتب متدنية وتعافٍ هش
ورغم زيادة رواتب موظفي القطاع العام بنسبة 200% بقرار من الرئيس الانتقالي أحمد الشرع، فإن الرواتب لا تزال لا تتجاوز 75 دولاراً شهرياً، في حين يطالب السوريون برفعها إلى 300 دولار حداً أدنى لتغطية نفقات المعيشة.
في المقابل، تشير أرقام رسمية إلى تسجيل 11.17 ألف شركة جديدة في الأشهر التسعة الأولى من 2025، وهو مؤشر على بداية تعافٍ اقتصادي، مع توقعات البنك الدولي بتحقيق نمو بنسبة 1%. لكن هذه الأرقام تبقى هشة أمام تحديات الواقع الأمني وضعف السيولة، إضافة إلى غياب سياسة رقابية فعالة على الأسواق.
ويرى عضو غرفة التجارة محمد الحلاق أن ما يجري في الأسواق السورية اليوم يعكس حالة فوضى اقتصادية منظمة، سببها ضعف أدوات الرقابة وغياب سياسة واضحة لإدارة المرحلة الانتقالية. ويقول لـ"العربي الجديد" إن "انخفاض التضخم على الورق لا يعني شيئاً إذا لم ينعكس على رفوف المحال. المشكلة ليست في قلة المواد، بل في طريقة التسعير واحتكار قلة من التجار والمستوردين السوقَ".
ويضيف الحلاق أن رفع الرواتب وحده لن يخفف العبء المعيشي ما لم يُرافقه ضبط فعلي للأسعار، ودعم مباشر للفئات الهشة، وإعادة تنظيم سلاسل التوريد، مشيراً إلى أن الحل يبدأ بإنشاء هيئة رقابة مستقلة على الأسعار، تراقب حركة السوق وتضع سقوفاً سعرية واضحة للسلع الأساسية، مع آليات تدخل حكومي في حال التلاعب بالأسعار أو الاحتكار.
كما يدعو الحلاق إلى إعادة تشغيل معامل إنتاج المواد الغذائية الأساسية ورفع القدرة الإنتاجية المحلية لتقليل الاعتماد على الواردات. ويختم: "إذا لم تستعد الدولة دورها في السوق، فسيبقى المواطن أسير لعبة التسعير اليومية بين كبار التجار".
معاناة تتجاوز الأرقام
تقول مهى الخليل، وهي موظفة حكومية من سكان برزة في دمشق، إن "كل شيء تغير بعد سقوط النظام، إلا الأسعار. كنا ننتظر تحسناً سريعاً، لكن الغلاء أصبح خانقاً. راتبي يذهب كله على الإيجار والطعام، ولا يتبقى شيء". وتضيف لـ"العربي الجديد" أن "الأسعار ترتفع يومياً من دون سبب، كأن السوق بلا دولة".
وشهدت سورية منذ مطلع 2025 موجة تضخم غير منسجمة مع مؤشرات النمو، إذ أدى التغيير السياسي وسقوط النظام السابق إلى رفع التوقعات الشعبية، لكن ضعف السياسات الانتقالية وعدم استقرار الوضع الأمني جعلا الأسعار تنفلت من عقالها. كما ساهمت قلة الإنتاج المحلي، والاعتماد شبه الكامل على الواردات، وتعدد مراكز القرار الاقتصادي، في زيادة الفوضى السعرية، لتتحول بوادر التعافي إلى حرب يومية مع الغلاء.

أخبار ذات صلة.

هزات عنيفة تلاحق اتفاق غزة
الشرق الأوسط
منذ 19 دقيقة