عربي
ما إن تفتح فمك بتحليل بسيط للوقائع مستنتجاً أن العدو، ومنذ عقود، لا يعمل وحده، بل بالتعاون والتضامن مع جهات كثيرة أغلبها في الغرب، وهو غرب يبدو أنه تصهين منذ فترة طويلة، حتى تلوح تعابير الاستخفاف على وجوه بعض السامعين، موشحة، حسب درجة احترامهم المحلل المتحدث، ببعض ابتسامات السخرية. ثم ما يلبثون أن يكنسوا الهواء بأيديهم داعين المتكلم للإقلاع عما قد يصفونه بالهراء، وتأثره بنظرية المؤامرة.
لقد تبين بعد عقود أنّ "نظرية المؤامرة" هي الغطاء الأمثل للمؤامرة شخصياً.
لا، ليس المنطق هو ما يخيل إليك أنه خلف استخفاف هؤلاء، أو علمهم بما قد لا تعلمه أنت. مع أنه من المنصف القول بأن إثبات المحللين وجودَ المؤامرة كان متعذراً دوماً، أو على الأقل شديد الصعوبة.. حتى نجاح المؤامرة. وهذا ما تثبته مئات الكتب التي أُلفت بعد مضي عقود على تنفيذ تلك المؤامرات. فمن يقوم بالتخطيط لتلك المؤامرات الضخمة وتنفيذها هو الدول وأجهزة استخباراتها وعملاؤها السرّيون فضلاً عن عصاباتها المرتبطة بها بشكل خفي وغير رسمي بالطبع.
ولا تتوقف أسباب استخفاف المؤمنين ببراءة الدول والأجهزة من المؤامرة عند قلة الدلائل الموثقة التي تثبت ذلك. فللأمر بعد آخر، إن حسنت النيات. الجهل أولاً، والكسل الفكري، والأهم من كل ذلك النظرة الدونية للذات الجماعية الوطنية.
يتماهى هؤلاء المستخفون مع أدنى تقييم لأنفسهم ولمواطنيهم ولإمكانات بلادهم. فمن نحن، قد يقولون، لكي تتآمر علينا دول عظمى؟ ومن يبالي بنا وببلدنا الصغير الذي قد لا يظهر على خريطة العالم لضآلة حجمه؟
لقد تبين أن المسارعة إلى استبعاد وجود مؤامرة، وجعلها مجرد "نظرية" وخرافة ووسيلة "الجهلة" لتفسير ما يحصل لهم، لم يكن دوماً بريئاً، مع أنه محق أحياناً
لقد تبين أن المسارعة إلى استبعاد وجود مؤامرة، وجعلها مجرد "نظرية" وخرافة ووسيلة "الجهلة" لتفسير ما يحصل لهم، لم يكن دوماً بريئاً، مع أنه محق أحياناً. لا بل إنه تبين في السنوات القليلة الماضية، خصوصاً خلال حرب الإبادة على فلسطين، أن هناك "موظفين" مهمتهم بالضبط نفي وجود مؤامرة. وهذا طبيعي كونهم مشاركين فيها.
ومن أجل تخفيف النقاش من الألفاظ المنمطة، فلنعد الأمور إلى نصابها ولو لغوياً: فما هي المؤامرة؟ هي ببساطة خطة أو مخطط سرّي ضد مصالح شخص أو كيان أو بلد أو شعب آخر، وسرّيته وتخفّي من يقومون به هما من شروط نجاحه وإحدى وسائله للنجاة من المساءلة العامة، خصوصاً أنه يعتمد غالباً على وسائل قذرة كالاغتيالات. لا بل إن نفي وجوده هو أهم سبب لاستمراره وتحقيقه النتائج المرجوة.
لكن، وفي حالنا، ولأن المخطط يكاد أن ينجح، لم يعد هناك من مبرر للاختباء. فما كان يُبيّت لمنطقتنا منذ عقود آن أوان حصاده. فأسفرت الوجوه عن نفسها، وبدأ يتكشف مع الأيام فصل جديد من خطة قديمة تهدف لتغيير وجه المنطقة وتسليمها لسلطة انتداب واحتلال جديدين، سيهيمنان علينا وينهبان ثرواتنا، النفطية والمائية خاصة.
لقد ظهرت الوجوه الحقيقية للمتآمرين، وبينها دول تدعي صداقة شعوبنا، تندد في العلن بأفعال إسرائيل وأميركا في حين أنها تدعم الأولى وتطيع الثانية لدى ارتكاب أقذر جرائمهما وفي انتهاكهما القانون الدولي والإنساني.
المساعدة لم تكن فقط بمدّ إسرائيل بالسلاح في حربها الإبادية الأخيرة، كما أعلن دونالد ترامب بفخر وصفاقة في الكنيست الإسرائيلي بالفم الملآن، وكما لم تعلن بريطانيا وفرنسا مثلاً، بل بمساعدتها استخبارياً ولوجستياً في الاغتيالات السياسية التي كانت تقوم بها منذ نشأتها.
وما كتاب أفيفا غوتمان، المحاضرة في الاستراتيجيا والاستخبارات في جامعة أبيريستويث، إلا دليل دامغ على كل ما تقدم. والكتاب الذي صدر أخيراً ونشر مراجعة له الزميل سعيد محمد في "الأخبار"، فضح بالوثائق تاريخاً مذهلاً للتعاون الاستخباري بين الكيان الصهيوني وأجهزة الاستخبارات الأوروبية والأميركية.
عنوان الكتاب "عملية غضب الرب: التاريخ السري للاستخبارات الأوروبية وحملة اغتيالات الموساد" (Operation Wrath of God: The Secret History of European Intelligence and Mossad's Assassination Campaign)، وهي تبدأ بوصف عملية اغتيال الفلسطيني وائل زعيتر في روما، لتنتقل، عبر قراءة وتفحص أربعين ألف وثيقة من أرشيف "نادي بيرن"، إلى استخلاص أن "حملة الاغتيالات التي شنها الموساد للانتقام لعملية ميونخ العام 1972 كانت مشروعاً أوروبياً إسرائيلياً مشتركاً".
لكن ما هو نادي بيرن؟ تقول الكاتبة: إن هذا النادي تأسس عام 1969 بوصفه تجمّعاً سرّياً لرؤساء أجهزة الاستخبارات الداخلية في ثماني دول أوروبية غربية، "لكنه سرعان ما توسّع ليضم شركاء من خارج أوروبا، أبرزهم الموساد ومكتب التحقيقات الفيدرالي الأميركي". وتضيف أنه "بعد عملية ميونخ، أُنشئت قناة اتصال مشفرة خاصّة بمكافحة ما سمّي بـ"الإرهاب الفلسطيني" تحت الاسم الرمزي "كيلوواط". لم تكتف الأجهزة الأوروبية بتزويد الموساد بمعلومات استخبارية هائلة حول أماكن سكن المناضلين الفلسطينيين، أرقام هواتفهم، مسارات رحلاتهم، والأسماء المستعارة التي يستخدمونها، بل كانت، وبعد كل عملية اغتيال على أراضيها، ترسل تقارير الشرطة المفصلة وآخر مستجدات التحقيق عبر قناة "كيلوواط"، لتصل مباشرة إلى القتلة أنفسهم. وبهذا، كان الموساد على اطلاع دائم بما تعرفه السلطات الأوروبية، والثغرات في عملياته، وكيف يمكنه تحسين عملياته القادمة لضمان الإفلات من العقاب".
في السنوات المقبلة، ستنشر تقارير وكتب عدة عن كواليس ما حصل منذ "طوفان الأقصى". فاليوم لم يعد المخطط بحاجة للسرّية. والمشاهد التي تعاقبت أمامنا على الشاشات وكل المواقف والتصريحات التي قرأناها وسمعناها في المحافل الدولية تشير إلى أننا أمام مرحلة سفور نيات جديدة، فظ ووقح، لا يتورّع عن الجهر لا بل الفخر بما كان يُعدّ عورة أخلاقية سابقاً، وأصبح اليوم، بنظر جزء كبير من الطبقة السياسية التي تحكم العالم، فعلاً عادياً لا يستوجب أي عقاب. بهذا المعنى، فإن ترامب ليس رئيس أميركا، بل هو نوع من "لوغو" للمرحلة.
اليوم سقطت الأقنعة واتضح الخيط الأبيض من الخيط الأسود. وما كنا نستنتجه دون توفر إثبات عن التآمر علينا، لم يعد بحاجة لإثبات.
لكن إن أردنا النظر بإيجابية إلى هذه النتيجة، وسنفعل، فإن المهم في الانكشاف بهذه الطريقة هو أنه حصل أمام شعوب العالم التي كانت تنام وقطن بروباغندا أنظمتها، الذي حشرته في آذانها وسائل الإعلام الخائنة مهنتَها، يضللها. شعوب مصدومة من هول ما حصل، تفغر فاهها منذ سنتين ذهولًا، وتنزل إلى الشوارع من أجل التغيير.
غداً، ستصدر كتب موثقة عن تآمر العالم من أجل "شرق أوسط جديد" تتسيد عليه إسرائيل.
أما المشهد الرمادي لغزة المبادة فسيبقى بألوانه الباطونية حياً في الذاكرة عقوداً، ليذكر بألوان التآمر الغربي (وبعض العربي) الفاقعة، وانحيازه لكيان مجرم، خارج عن القانون ومتوحش، وسم وعي الناس، وكشف عن خراب أخلاقي مهول، وإنسانية نخرتها كالسوس المصالح والرغبة الجامحة في السلطة.