
عربي
على وقع أصوات المناشير ورائحة الخشب المقطّع، يشهد سكان حي المزة في دمشق قطع الأشجار في حديقة الجلاء منذ عدة أيام؛ إحدى آخر المساحات الخضراء في العاصمة السورية. أشجار معمّرة من الصنوبر والسرو والأكاسيا سقطت تباعاً، في إطار عمليات إزالة تنفذها ورشات تابعة لمستثمر خاص، وبموافقة رسمية من محافظة دمشق والضابطة الحراجية.
تقع الحديقة ضمن منشآت مدينة الجلاء الرياضية العائدة للاتحاد الرياضي العام، والتي جرى استغلالها خلال السنوات الماضية من قبل أحد المستثمرين لإقامة فعاليات تجارية وسياحية. ووفقاً لوثيقة رسمية صادرة عن محافظة دمشق، شملت عمليات القطع 10 أشجار سرو و19 شجرة صنوبر وعدداً من الأشجار المشابهة، إضافة إلى شجرتين من الأكاسيا و8 أشجار فلفل كاذب. كما جرى التعامل مع الأشجار بطرق بدائية وغير مهنية، إذ تمّ اقتلاع بعضها من جذوره من دون تجهيز تقني، ما أدى إلى تلفها وعدم إمكانية إعادة زراعتها.
قطع الأشجار المعمرة في حديقة الجلاء بدمشق يثير استياء السكان pic.twitter.com/cLlC6tHS2a
— التلفزيون العربي - سوريا (@AlarabyTvSY) October 13, 2025
أهالي حي المزة لم يخفوا غضبهم من المشهد. يقول عمر السعدي، أحد سكان المنطقة لـ"العربي الجديد": "هذه الحديقة هي المتنفس الوحيد لنا. لم يبقَ في دمشق الكثير من الأماكن العامة المظللة بالأشجار. قطعها يعني خنق الحي وتحويله إلى مساحة إسمنتية".
وأشار عدد من الأهالي إلى أنهم بدؤوا بتنسيق دعوة مفتوحة للاحتجاج السلمي أمام الحديقة خلال الأيام المقبلة، للضغط على الجهات المعنية لوقف الأعمال ورفع شكاوى رسمية ضد المستثمر. وتقول خلود شمس الدين، وهي من سكان المزة: "لن نقف مكتوفي الأيدي. هذه الحديقة ملك عام وليست مشروعاً تجارياً. سنرفع الصوت علناً، ولن نسمح باستكمال هذه المخالفة".
ويشير الأهالي إلى أن عمليات القطع تتركز في الجهة القريبة من "برو جيم معلا"، حيث تتوسع الفعاليات التجارية داخل المساحة الخضراء. ويضيف أحدهم: "بدأ الأمر بإزالة بعض الأشجار بحجة الترميم، ثم تحوّل إلى تجريف متواصل. نخشى أن تختفي الحديقة بالكامل". من جهتها، أوضحت مديرية الحدائق في محافظة دمشق لـ"العربي الجديد"، أنّ المديرية "تنفذ أعمالاً يومية لصيانة الحدائق وتوفير بيئة آمنة ومجانية للزوار، تشمل تحسين الإنارة والمقاعد والمرافق الصحية، لا سيما في حدائق كبرى مثل تشرين، المدفع، السبكي، المنشية"، مضيفة أنّ "الإزالة تمت بناء على طلب المستثمر وبموافقة لجنة فنية مشتركة بين المحافظة والاتحاد الرياضي، ومن المفترض أن يتم تعويض الأشجار المزالة بأخرى جديدة، لكن آلية التنفيذ لم تبدأ بعد".
في المقابل، يرى الخبير البيئي المهندس رائق البني أنّ ما يجري "يتعارض مع المادة 12 من قانون حماية البيئة رقم 50 لعام 2002"، والتي تنص على عدم جواز إزالة أي شجرة ضمن الحدائق العامة، إلا لأسباب قاهرة وبموافقة الجهات المختصة وبشرط التعويض الفوري. ويضيف لـ"العربي الجديد": "ما يجري لا يرقى حتى إلى الحد الأدنى من المعايير الفنية. نقل الأشجار بطريقة بدائية يعني عملياً قتلها، وليس الحفاظ عليها".
وتلزم القوانين المحلية الجهات المنفذة بتعويض كل شجرة تُزال داخل المدينة بأخرى من النوع نفسه وبعمر مناسب، إضافة إلى تحديد الغرض العام من الإزالة. غير أن خبراء بيئيين يشيرون إلى أن هذه النصوص تبقى حبراً على ورق في معظم الحالات، لصالح مشاريع استثمارية تلتهم الحدائق العامة في العاصمة. تأتي هذه التطورات في وقت تشهد فيه دمشق تراجعاً حاداً في الغطاء النباتي داخل المدينة، نتيجة الاستثمارات التجارية ومشاريع البناء التي طاولت الحدائق العامة خلال السنوات الأخيرة، وسط غياب واضح لخطط إعادة التشجير أو صون المساحات الخضراء.
في ما يخص أهالي المزة، لا يتعلق الأمر بعدد الأشجار المقطوعة فقط، بل بفقدان آخر متنفس طبيعي في حي مكتظ. يقول فؤاد القبواتي، وهو موظف متقاعد يسكن قرب الحديقة: "لا نملك ترف الذهاب إلى المتنزهات البعيدة، وهذه الحديقة كانت مكاناً للتنفس. الآن تُسرق منا ببطء، وبموافقة رسمية". في المقابل، قال مصدر في الاتحاد الرياضي العام لـ"العربي الجديد"، إن الاستثمار القائم في مدينة الجلاء "يهدف إلى تطوير المنشأة وتحسين الخدمات العامة"، مؤكداً أن "عمليات الإزالة تمت ضمن خطة مصدّقة وبموافقة الجهات المعنية، على أن تتم زراعة أشجار جديدة مكان القديمة".
أما المستثمر، فقد اكتفى بالقول عبر وسيط إداري: "كل الإجراءات قانونية، ولا يوجد أي تعدٍّ على الملكيات العامة. المشروع يهدف إلى تحسين المرافق وليس تقليص المساحات الخضراء". لكن هذه التبريرات لم تقنع الأهالي الذين يصرّون على المضي في احتجاجهم للمطالبة بوقف الأعمال فوراً، والحفاظ على ما تبقّى من الحديقة.
حديقة الجلاء "رئة المزة"
تُعدّ حديقة الجلاء واحدة من أبرز المساحات الخضراء العامة في دمشق، وتبلغ مساحتها نحو 20 ألف متر مربع تقريباً، وتضم عشرات الأشجار المعمّرة من السرو والصنوبر والأكاسيا، إضافة إلى ممرات للمشاة وملاعب مفتوحة. أنشئت الحديقة في ثمانينيات القرن الماضي ضمن منشآت مدينة الجلاء الرياضية في حي المزة، لتكون متنفساً طبيعياً لسكان الأحياء الغربية من العاصمة.
ومع التوسع العمراني وارتفاع الكثافة السكانية في المنطقة، تحوّلت الحديقة إلى آخر متنفس أخضر للأهالي، ما جعلها محط اهتمام بيئي وشعبي كبير. ويخشى السكان أن يؤدي تقليص مساحتها لصالح الاستثمارات التجارية إلى فقدان الحي أهمَّ مساحة عامة مفتوحة فيه.
