
عربي
بعد سيل من الادعاءات المضللة أمام الكنيست الإسرائيلي مطلع الأسبوع الحالي بشأن إنهاء ثماني حروب في ثمانية أشهر، طلب الرئيس الأميركي دونالد ترامب من مبعوثه الخاص ستيف ويتكوف التركيز على إنهاء الحرب في أوكرانيا. وبعد إشارته إلى عدم وجود أي خبرة سابقة لدى صديقه السمسار العقاري بالشؤون الروسية، قال ترامب "أولاً، علينا إنهاء الملف الروسي، علينا إنجاز هذا الملف، إذا لم يكن لديك مانع يا ستيف فلنركز على روسيا أولاً"، مشيراً مرة أخرى إلى أنه كان يتوقع إنهاء الحرب التي ما كان لها أن تندلع لو أنه كان رئيساً، وفق ادعاءاته.
وبدا أن ترامب "المنتشي" بإشادات من كل حدب وصوب بوصفه صانع سلام بطرق غير تقليدية، أراد إثبات نجاحه في اشتقاق طرق لوقف الحروب في العالم مع تحقيق أرباح مالية يتقاسمها زملاؤه المطورون العقاريون مع شركات الأسلحة والطاقة الأميركية. في المقابل، وعلى عكس الدعم غير المحدود لإسرائيل في حرب الإبادة على قطاع غزة بتزويدها بأنواع أسلحة طلبها رئيس حكومة الاحتلال بنيامين نتنياهو لا يعرفها ترامب، ودعم الاحتلال سياسياً واقتصادياً وإعلامياً، فإن إدارة ترامب ما زالت بعد تسعة شهور ترسل إشارات متضاربة حول الحل في أوكرانيا، ولم تحدد بوضوح المسؤول عن تعطيل التوصل إلى تسوية سياسية.
وعلى خلفية اشتداد المعارك في شرق أوكرانيا وجنوبها وتقدّم روسيا على الأرض منذ الربيع الماضي، واستعار "حرب الطاقة" بين موسكو وكييف، واستنفار أوروبي بعد اختبارات قاسية تعرضت لها أجواء بولندا وإستونيا والدنمارك في الأسابيع الأخيرة، تدور أحاديث عن الأهمية الاستثنائية للاجتماع بين ترامب ونظيره الأوكراني فولوديمير زيلينسكي، اليوم الجمعة في البيت الأبيض، حيث من المنتظر أن يبتّ "صانع السلام" الجديد في موضوع تزويد أوكرانيا بصواريخ توماهوك بتمويل أوروبي. علماً أن ترامب استبق هذا اللقاء باتصال هاتفي مطوّل مع نظيره الروسي فلاديمير بوتين أمس الخميس، أعلن الرئيس الأميركي بعده أنه سيلتقي بوتين قريباً في بودابست.
استبق ترامب اللقاء مع زيلينسكي باتصال هاتفي مطوّل مع بوتين أعلن الرئيس الأميركي بعده أنه سيلتقي الرئيس الروسي قريباً في بودابست
وبدأ زيلينسكي أمس الخميس زيارته إلى واشنطن، ويجري محادثات مع ترامب اليوم الجمعة بشأن احتمال تسليم بلاده صواريخ توماهوك، وفق ما نقلت وكالة فرانس برس أمس عن مسؤول أوكراني كبير لم تسمه. وقال المسؤول إن زيلينسكي سيلتقي ممثلين لقطاع الصناعات الدفاعية لمعرفة "متى ستكون الإمدادات ممكنة فعلياً". وشهدت العلاقات بين الرئيسين تحسنا منذ فبراير/شباط الماضي بعد اللقاء العاصف الذي قام خلاله ترامب ونائبه جي دي فانس بتوبيخ زيلينسكي أمام الصحافيين ووصفاه بأنه "ناكر للجميل". بعدها، أصبح ترامب أكثر عدائية تجاه موسكو وأظهر إحباطاً متزايداً تجاه الرئيس الروسي فلاديمير بوتين. وقال المصدر الأوكراني لوكالة فرانس برس إن العلاقات بين واشنطن وكييف أصبحت الآن "براغماتية أكثر".
تطورات الحرب في أوكرانيا
منذ انفصالها عن الاتحاد السوفييتي، حظيت أوكرانيا بدعم أميركي متفاوت يعتمد أساساً على تقارب أو تباعد مواقف موسكو وواشنطن، واستخدمتها الإدارات الأميركية ورقةَ ضغط للحصول على تنازلات من روسيا. وحددت تقديرات المفكر الاستراتيجي ومستشار الأمن القومي الأميركي الراحل زبيغنيو بريجنسكي طريقة التعامل الأميركي مع أوكرانيا بعد انتهاء الحرب الباردة. وانطلقت أفكار بريجنسكي من أن أوكرانيا القوية والمستقرة تعد ثقلاً موازناً حاسماً لروسيا، وأنها يجب أن تكون محور اهتمام وتركيز الإستراتيجية الأميركية بعد انتهاء الحرب الباردة لأنه إذا سيطرت روسيا على أوكرانيا فيمكن لها أن تعيد بناء إمبراطوريتها من جديد، وأن روسيا من دون أوكرانيا مجرد دولة إقليمية كبرى. ورغم إقرارها بانفصال أوكرانيا عن الاتحاد السوفييتي، فإن روسيا ظلت تنظر إليها على أنها جزء أصيل من "الاتحاد السلافي" مع بيلاروسيا والذي شكّل قلب المشروع السوفييتي، وسعت إلى استمالة قادتها قدر الإمكان. وبرز التنافس الروسي الغربي واضحاً بعد الثورة البرتقالية في 2004، وسعي كل طرف إلى دعم السياسيين المقربين له وتمكينهم في الحكم. ومع زيادة المخاوف من فقدان أوكرانيا، ضمت روسيا شبه جزيرة القرم في 2014 ودعمت الحركات الانفصالية في منطقة دونباس، ما وسّع الشرخ مع الولايات المتحدة.
في المقابل، فإن الالتزام الأميركي بوجود إسرائيل وأمنها راسخ في السياسات الأميركية منذ تأسيسها على حساب الفلسطينيين، وحظيت بدعم مادي وعسكري وسياسي ثابت رغم اعتداءاتها المتواصلة على جيرانها العرب واحتلال أراضيهم. وتعتمد إسرائيل على دعم كبير من "لوبي إسرائيل" الكبير في واشنطن، وفي زمن ترامب بدا أن هذا اللوبي ذهب بعيداً، مع إشارة ترامب في خطابه في الكنيست يوم الاثنين الماضي إلى أن ابنته ايفانكا تبنت "ديانة أخرى" وأنها تعيش مع زوجها اليهودي جاريد كوشنر بوئام.
وذهب محللون إلى أن إدارة ترامب استغلت نفوذها الكبير ومارست بشكل مفاجئ ضغوطاً على إسرائيل للقبول بخطة ترامب لوقف إطلاق النار، وأن اتفاق غزة أظهر أنه في حال وجود إرادة سياسية فإن السلام قابل للتحقق. ومن الواضح أن هذه التحليلات تتجاهل حقيقة أن واشنطن واصلت دعم إسرائيل بكل أنواع الأسلحة وشاركت عمليا في استغلال أحداث 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023 لإنهاء "محور المقاومة" بالكامل، وليس "حماس" وحدها، والتمهيد لشرق أوسط جديد. كما أن التحليلات تتجاهل أن خطة ترامب غير الواضحة تمثل إنقاذاً لصورة إسرائيل المهتزة عالميا بعد المجازر والتجويع في غزة، ولا تغلق باب العودة إلى الحرب كما جرى في بداية العام الحالي.
منذ بداية الحرب الروسية على أوكرانيا، رفضت إدارة بايدن تسليم كييف أسلحة متطورة خوفاً من ردة الفعل الروسية نووية كانت أو تقليدية
ولا تقدم واشنطن الدعم ذاته لأوكرانيا، كما أن روسيا أقوى بكثير من المحور الداعم لها. ومنذ بداية الحرب الروسية على أوكرانيا في فبراير/شباط 2022، رفضت إدارة الرئيس الأميركي السابق جو بايدن تسليم كييف أسلحة متطورة خوفاً من ردة الفعل الروسية نووية كانت أو تقليدية. وواصل ترامب نهج إدارة بايدن بعدم استفزاز روسيا في هذا المجال، لكنه عمل على توجيه اللوم لأوكرانيا وتحميلها مسؤولية الحرب وضغط على رئيسها لتقديم تنازلات في موضوع الأراضي، مع إدراكه بأن الضغوط على روسيا لن تجدي. ومع افتقاره لأدوات الضغط على روسيا واستنفاد ورقة العقوبات في ظل الإدارة السابقة، عمل ترامب بعقلية "رجل الأعمال" على استمالة روسيا بعرض التعاون الاقتصادي والاستثماري، ورفع العقوبات تدريجياً بما هي إحدى الأدوات المفضلة لديه. وبدلاً من دفعه إلى السلام وتقديم تنازلات، انتهز بوتين الفرصة للمماطلة، بمزيج من تقديم عروض اقتصادية مجزية لواشنطن، مع استعراض للقوة على الأرض وإثبات قوته وصلابته، وهي مزايا تكشف تصريحات ترامب أنه يقدّرها جيداً. وذهب بوتين إلى التشدد مع توسع الشرخ بين واشنطن وبروكسل بسبب الحرب التجارية واختلاف التقديرات لدعم أوكرانيا، وانتقادات إدارة ترامب للسياسات الأوروبية وتشجيعها أحزاب اليمين الشعبوي.
وبافتراض وجود إرادة للضغط على بوتين، فإن ترامب يفتقد الأدوات الداخلية للتأثير في السياسات الروسية، على عكس قدرة واشنطن على التأثير في صنع القرار في تل أبيب. كما أن نظرة روسيا للولايات المتحدة لا تنطلق من أنهما حليفان، ولا تحتاج روسيا دعماً أميركياً بالسلاح، كما أن التجارة بين الولايات المتحدة وروسيا محدودة، ما يجعل العقوبات الاقتصادية غير فعالة.
الإرادة السياسية
كانت لدى ترامب منذ حملته الانتخابية إرادة سياسية لإنهاء الحرب على غزة مع عودة الأسرى الإسرائيليين، وضمان انتصار إسرائيل، وتعطلت الجهود أساساً بسبب تعنّت نتنياهو وحرصه على عدم انهيار تحالفه مع اليمين الديني، ورغبته في استغلال الحرب لإنهاء ملفات عالقة في لبنان وسورية واليمن وإيران. في المقابل، ضغط ترامب على أوكرانيا للتفاوض مع روسيا، ووافق زيلينسكي على وقف إطلاق نار غير مشروط، لكن الكرملين رفض. كما هدد ترامب بانتظام بفرض عقوبات على روسيا وشركائها التجاريين، ولكنه لم يتخذ أي إجراء عقب هذه التهديدات، مع استثناء وحيد وهو فرض رسوم جمركية بنسبة 25% على الهند في أغسطس/آب الماضي بسبب مشترياتها من النفط الروسي. ومع ذلك، لم تؤدِّ هذه الرسوم الجمركية إلى انخفاض واردات الهند من النفط الروسي. وربط ترامب فرض عقوبات على الصين لحثها على وقف دعم روسيا بالتوافق مع أوروبا على عقوبات مشتركة، وتوقف أوروبا عن شراء الطاقة من روسيا.
عسكرياً، توقفت حزم المساعدات العسكرية الجديدة، مع تأخير في جداول المساعدات المقرة سابقاً. وبعد وقف المساعدات العسكرية الأميركية لأوكرانيا مرتين، أعلن ترامب في يوليو/تموز الماضي عن مبادرة يشتري بموجبها أعضاء آخرون في حلف شمال الأطلسي (ناتو) أسلحة أميركية، في مؤشر إضافي إلى أن واشنطن تريد تحميل أوروبا كلفة تمويل الحرب على أوكرانيا وتحقيق أرباح في الوقت ذاته.
السلام عبر القوة
من الواضح أن خطاب ترامب الاستعراضي أمام الكنيست الاثنين الماضي لم يكن فرصة مناسبة لعرض أي أفكار لإنهاء الحرب الروسية على أوكرانيا، لكنه أشار أكثر من مرة إلى مبدأ "السلام عبر القوة"، وإلى القدرة الخارقة للأسلحة الأميركية. وفي تصريحاته اللاحقة لم يكشف ترامب عن أي خطة فعلية لإنهاء الحرب في أوكرانيا، باستثناء حديث عن دراسة تزويد أوكرانيا بصواريخ توماهوك الموجودة بكثرة لدى بلاده والتي تطلبها دول كثيرة، حسب قوله الثلاثاء الماضي.
قال هيغسيث إن واشنطن وحلفاءها سيتخذون الخطوات اللازمة لفرض تكاليف على روسيا بسبب عدوانها المستمر ما لم تضع حداً للحرب في أوكرانيا
وقبل يومين على لقاء زيلينسكي مع ترامب، قال وزير الحرب الأميركي بيت هيغسيث، أثناء اجتماع مجموعة الاتصال لدعم أوكرانيا، أمس الأول الأربعاء، إن واشنطن وحلفاءها سيتخذون "الخطوات اللازمة لفرض تكاليف على روسيا بسبب عدوانها المستمر ما لم تضع حداً للحرب في أوكرانيا". وفي تصعيد لافت أشار هيغسيث إلى أنه "إذا كان علينا اتخاذ هذه الخطوة، فإن وزارة الحرب الأميركية مستعدة لأداء دورها بطرق لا يمكن إلا للولايات المتحدة فعلها". ولم يطرح الوزير أي تفاصيل بشأن الخطوات الأميركية لكنه شدد على أنه "آن الأوان لإنهاء هذه الحرب المفجعة ووقف سفك الدماء غير المبرر والعودة إلى طاولة السلام". وخلص هيغسيث إلى القول "تنعم بالسلام عندما تكون قوياً. لن تنعم به عند استخدام كلمات قوية أو تهز أصابعك، بل عندما تمتلك قدرات قوية وحقيقية يحترمها الخصوم".
في المقابل، فإن تصريحات ترامب المتناقضة في الأيام الأخيرة تضفي غموضاً إضافياً حول إمكانية تزويد أوكرانيا بصواريخ توماهوك بعد تحذير روسيا من أن الخطوة تعد تصعيداً كبيراً وأنه لا يمكن استخدام هذه المنظومات من دون مشاركة فعلية للخبراء والعسكريين الأميركيين. وقال ترامب نهاية الأسبوع الماضي "هل يريدون (الروس) توجيه صواريخ توماهوك نحوهم؟ لا أعتقد ذلك". وأشار إلى أنه قد يستخدم هذه الأسلحة وسيلة ضغط في المفاوضات مع روسيا.
وفي حال ذهاب ترامب إلى المخاطرة وتزويد أوكرانيا بصواريخ توماهوك التي تتطلب توفير دعم لوجستي أميركي لإطلاقها، فمن غير المؤكد أنه سينجح في إنهاء الحرب، فروسيا تملك منظومات دفاع جوي، كما أنها تستطيع الرد بقوة على أوكرانيا، وربما تصعيد الأوضاع أكثر واللعب على حافة الهاوية عبر تلويح أكثر جدية بالأسلحة النووية، وتصعيد الحرب الهجينة على أوروبا. ومن المؤكد أن حلفاء روسيا سيواصلون دعمها خشية تحوّل الضغط الأميركي عليهم في حال هزيمة بوتين.
وبنظرة أوسع لأهداف الحرب الروسية على أوكرانيا، من غير المستبعد أن يذهب ترامب نحو التشدد أكثر بعد استنفاد طرق محاباة بوتين تارة وتفهم مطالبه، والسعي لاستغلال العلاقات الشخصية والإقناع الاقتصادي. في المقابل، فإن نجاح ترامب في إنهاء الحرب في أوكرانيا غير مضمون حتى لو شدد أساليب الإكراه السياسي والاقتصادي والعسكري على روسيا المصرة على أن حرب أوكرانيا وجودية ضمن جهودها لإعادة تشكيل العالم متعدد الأقطاب.
خسارة ترامب جائزة نوبل للسلام هذا العام ستحبط عزيمته للتوصل إلى حل سريع للحرب في أوكرانيا، لكنه لن يتخلى عن عقلية التاجر في السياسة
والأرجح أن خسارة ترامب جائزة نوبل للسلام هذا العام ستحبط عزيمته للتوصل إلى حل سريع للحرب في أوكرانيا، لكنه لن يتخلى عن عقلية التاجر في السياسة، وسيسعى إلى تحقيق مكاسب إضافية من الحرب. وبعد صفقة المعادن، وزيادة صادرات النفط والغاز إلى أوروبا، يفتح ترامب سوقاً هائلة لمصنعي الأسلحة في الولايات المتحدة لتزويد أوروبا بمختلف صنوف الأسلحة للدفاع عن ذاتها ودعم أوكرانيا. ومع احتمال انسحابه من جهود التسوية السياسية في أوكرانيا ومواصلة تزويد أوروبا بالأسلحة، يواصل ترامب إيقاد حرب بعيدة عن بلاده، يمكن أن تضعف أوروبا وأوكرانيا وروسيا، وتجعله متحكماً بقواعد اللعبة العالمية، ليكرر سيناريوهات الحربين العالميتين الأولى والثانية. وربما تشكل تصريحات ترامب في سبتمبر/أيلول الماضي حول قدرة أوكرانيا على القتال والانتصار واستعادة كامل أراضيها، وأن الجيش الروسي "نمر من ورق" وأن الاقتصاد الروسي ينهار، محاولة للضغط على بوتين واقناعه بالجنوح إلى السلام. وفي الوقت ذاته ربما تكون بداية لتسليم مسؤولية الدفاع عن أوكرانيا إلى الأوروبيين. ومن المؤشرات المهمة إلى التوجه الأميركي الجديد، تصريحات سكوت بيسنت، وزير الخزانة الأميركي في مقابلة مع قناة "فوكس بيزنس" في 24 سبتمبر/أيلول الماضي، حين قال: "كما قلتُ لنظرائي الأوروبيين قبل أسبوعين تقريباً، كل ما أستطيع سماعه منكم هو أن بوتين يُريد الزحف إلى وارسو. الشيء الوحيد الذي أنا متأكد منه هو أن بوتين لن يزحف إلى بوسطن".
