
عربي
قد يتذكّر القارئ أن الصحافي البريطاني (الراحل) روبرت فيسك منح رئيس الوزراء البريطاني الأسبق توني بلير لقب "اللورد بلير أمير كوت – العمارة" إقراراً ساخراً بدور الرجل الدموي إبّان غزو العراق واحتلاله لاحقاً، وخدماته لما تسمّى "الحرب على الإرهاب" (كوت - العمارة، بحسب الولاية العثمانية في العراق، المكان الذي تكبّدت فيه القوات البريطانية هزيمةً مذلّةً خلال الحرب العالمية الأولى). لطالما اعتبر فيسك، بلفور وسايكس وبيكو، "نماذج للغطرسة في الشرق الأوسط". عندما ذهب بلير (مبعوثاً للرباعية الدولية إلى الشرق الأوسط) إلى القدس في مهمّة "إنشاء فلسطين" في عام 2007، انفجر فيسك غضباً وتساءل: "ألم يتعلّم هذا الرجل البائس شيئاً؟ كيف يمكن منح بلير هذه الوظيفة؟". لم يعش فيسك ليرى المشهد الثاني، حين عيّن ترامب رئيس الوزراء السابق، ذا السمعة السيئة، في "مجلس السلام" حاكماً لـ"مستعمرة غزّة الجديدة". وفي 30 الشهر الماضي (سبتمبر/ أيلول)، بتبجّحه وصخبه المعهودَين، كشف رئيس الولايات المتحدة النقاب عن "خطّته للسلام" من 21 نقطة في مؤتمر صحافي، وإلى جانبه بنيامين نتنياهو، قائلاً: "كان يوماً عظيماً، يوماً رائعاً، ربّما أحد أعظم الأيّام على الإطلاق في تاريخ الحضارة الإنسانية"، مانحاً نفسه المرتبة الأولى في تسوية سبع حروب و"هذا لم يحدث منذ ثلاثة آلاف عام".
استند اقتراح ترامب بشكل مباشر إلى خطط الاستعمارين القديم والجديد في القرنَين التاسع عشر والعشرين، متمثّلة بانتداب غير قانوني، واختزال للعدالة الإنسانية، وصولاً إلى تقسيم إقليمي وإعادة رسم خرائط. أمّا الجديد في هذا، إذا ما استثنينا حرب الذكاء الاصطناعي القاتلة في القرن الحادي والعشرين، فهو أن الحكومات الغربية المتواطئة تبدو على استعداد لتأييد هذه الإبادة الجماعية التي تُبثّ على الهواء مباشرة، ومذبحة أطفال معاصرة يخجل منها الملك هيرودس نفسه. وكما يعلم أيّ شخص، وإن كان على درايةٍ سطحيةٍ بالمنطقة، فإن التاريخ والسياق هنا يشكّلان أهميةً بالغةً. وغني عن القول إن كليهما غائب تماماً من هذا الطرح المتكرّر لدبلوماسية السلام الأميركية، الأمر الذي لا يفاجئ الفلسطينيين، ولا مَن في المنطقة الأوسع، الذين هم على دراية بالأكاذيب والتشويه والتحريف.
لنرجع قليلاً في التاريخ. ولنبدأ باتفاقية سايكس بيكو السرّية لعام 1916، التي تآمرت بموجبها بريطانيا وفرنسا لتقسيم مقاطعات الإمبراطورية العثمانية الناطقة باللغة العربية، إذ خطّط لاستيلاء بريطانيا على ما يعرف حالياً بالعراق وشرقي الأردن (الأردن الحالي) وفلسطين، وفرنسا على ما يعرف حالياً بسورية ولبنان. أمّا المُستعمِرون البريطانيون، فلم يكن من الأهمية أنهم سبق أن وعدوا شريف مكّة (الجدّ الأكبر لملك الأردن عبد الله الثاني)، في مراسلات الحسين - مكماهون عام 1915، بمملكة عربية. ومن ثمّ وصلت الازدواجية البريطانية إلى أوجها مع إعلان بلفور عام 1917، الذي وعد بإنشاء "وطن يهودي" في فلسطين، مع تجاهل الفلسطينيين العرب، الذين أُطلق عليهم اسم "السكّان غير اليهود"، رغم أنهم كانوا يمثّلون أكثر من 90% من السكّان، في حين لم يكن اليهود يمتلكون أكثر من 2% من الأرض. وبعد سلسلة من الهزائم، احتلّت القوات البريطانية غزّة، ودخل الجنرال أللنبي منتصراً إلى القدس في ديسمبر/ كانون الأول 1917. وعلى الفور، أُنشئتْ إدارة عسكرية في 1918، سمّيت "إدارة أراضي العدو المحتلّة" (Occupied Enemy Territory Administration ) أو (OETA / South)، والمقصود بـ"أراضي العدو" فلسطين. وفي أعقاب ذلك، أُنشئتْ لجنة صهيونية في 1918 برئاسة حاييم وايزمان لوضع الأساس لـ"وطن قومي يهودي". وقد أثارت أفعال اللجنة المتطرّفة الإدارة العسكرية التي عارضت الاستعمار الصهيوني والاستيلاء على الأراضي ملكيةً حصريةً لليهود، على أساس أن الإدارة العسكرية البريطانية كانت ملزمةً بموجب القانون الدولي بالحفاظ على الوضع الراهن (status quo) في الأراضي المحتلة.
استنفدت اللجنة الصهيونية صبر حتى الإمبرياليين البريطانيين، فكان ضبّاطها يرفعون الشكاوى إلى قادتهم مراراً وتكراراً من وجود "دولة داخل دولة". وكان إدوين مونتاغو (1879-1924)، وهو يهودي مناهض للصهيونية وعضو مجلس الوزراء البريطاني ووزير الدولة لشؤون الهند، قدّ حذر بالفعل من وعد بلفور في أكتوبر/ تشرين الأول 1917، واصفاً الصهيونية (ببعد نظر واضح) بأنها "عقيدة سياسية خبيثة"، تعزّز معاداة السامية. وكذلك تساءل اللورد كرزون (1859-1925) عضو مجلس الحرب وزعيم مجلس اللوردات، في الشهر نفسه، عما يتساءل عنه المراقبون الدوليون إلى اليوم: "ماذا سيحدث لشعب البلاد؟".
استند اقتراح ترامب بشكل مباشر إلى خطط الاستعمارين القديم والجديد في القرنَين التاسع عشر والعشرين، متمثّلة بانتداب غير قانوني، واختزال للعدالة الإنسانية، وصولاً إلى تقسيم إقليمي وإعادة رسم خرائط
في 8 يناير/ كانون الثاني عام 1918، نشر الرئيس الأميركي وودرو ويلسون 14 نقطة للسلام العالمي، التي حظرت المعاهدات السرّية وضمّ المستعمرات، ونصّتْ على أن تكون رغبات الشعوب المعنية هي الاعتبار الأساس في أيّ تسوية سلمية. وفي إبريل/ نيسان 1919، طالب المؤتمر العربي في دمشق بالاستقلال المطلق لسورية، من جبال طوروس في الشمال إلى رفح في الجنوب، إذ كانت فلسطين جزءاً من سورية. ورفض المؤتمرُ إعلان بلفور رفضاً تاماً، واختار الأميرَ فيصل، زعيم الثورة العربية الكبرى، ملكاً لسورية بأكملها. استجاب مؤتمر باريس للسلام عام 1919 بإنشاء لجنة تحقيق مكوّنة من الحلفاء بهدف تقصّي الحقائق في الأراضي العثمانية للتأكّد من الرغبات الإقليمية. وحين رفض الإنكليز والفرنسيون والإيطاليون المشاركة في اللجنة، عملت المجموعة التي تقودها الولايات المتحدة، والمؤلَّفة من 40 عضواً، بمفردها تحت قيادة هـ. س. كينغ، رئيس كلية أوبرلين في أوهايو وكرين، وهو رجل أعمال محترم وديمقراطي بارز.
بدأت اللجنة العمل في يونيو/ حزيران التالي، وجالت في طول سورية وعرضها، أي "سورية الكبرى"، قبل تقديم توصياتها الرئيسة إلى عصبة الأمم بعد شهرَين، داعمةً هذا الموقف فعلياً على أساس أن "البلد عربي إلى حدّ كبير في اللغة والثقافة والتقاليد والعادات". وفي الوقت نفسه، أوصت "بتعديل جادّ للبرنامج الصهيوني المتطرّف". واعترافاً باتساع مدى المعارضة العربية الفلسطينية المقترحات الصهيونية، أضافت اللجنة أنه "لم يرَ أيّ ضابط بريطاني استشارته اللجنة أن البرنامج الصهيوني يمكن تنفيذه إلا بقوة السلاح". ولقد ظلّ تقرير كينغ - كرين الأميركي سرّياً حتى 1922، عندما نُشرتْ أجزاء منه فقط. وبالمناسبة، كان هذا أيضاً العام نفسه الذي أقرّ فيه مجلس اللوردات البريطاني في 22 يونيو اقتراحاً (60 صوتاً مؤيّداً مقابل 25 صوتاً معارضاً) يرفض الانتداب البريطاني على فلسطين، على أساس انتهاكه تعهّدات مكماهون للشريف حسين، وبسبب ظلمه المتأصّل بحقّ الفلسطينيين.
وفي 19 سبتمبر/ أيلول عام 1919، قدّم بلفور (كان حينها في باريس) مذكّرةً متعلّقةً بسورية وفلسطين وبلاد ما بين النهرين إلى الحكومة البريطانية، قائلاً بوقاحة: "هل نتّجه أساساً للنظر في رغبات السكّان؟ في تحديد الانتداب الذي سيتم اختياره... لن نفعل شيئاً من هذا القبيل... قد يختارون بحريتهم، لكن في نهاية المطاف القرار متروك لنا"... وهكذا، أوضح بلفور تماماً أنه على الرغم من أن المفهوم من نظام الانتداب أنه "إئتمان حضاري إلى أن تتمكّن الأمم من الوقوف وحدها"، إلا أنه يبقى استعماراً قديماً من القرن التاسع عشر، وإن تنكّر في عباءة جديدة "متحضّرة" تسمّى حالياً بـ"نظام الانتداب". لم تدم مملكة فيصل السورية طويلاً، إذ أطاحت بها القوات الفرنسية بشكل مفاجئ عندما دخلت دمشق في 25 يوليو/ تموز 1925 بتواطؤ بريطاني وبقيادة الجنرال غورو. وكانت هذه بداية الانتدابين الفرنسي والبريطاني في سورية وفلسطين، مسبّبةً موجات من الصدمات التي لا يزال صداها يتردّد في النفس العربية. وفي هذه الأثناء، شنّ الصهيوني هربرت صموئيل حربه ضدّ القومية العربية، حتى قبل أن يتولى منصبه أوّل مندوب سامٍ لفلسطين، معارضاً بشدّة وحدة سورية وناصحاً الحكومة البريطانية بأن الاعتراف بفيصل ملكاً لسورية "من شأنه أن يقتلع القلب من الصهيونية".
مرحلة غاية في الخطورة والحساسية في الصراع الصهيوني العربي، ينبغي التعامل معها بيقظة شديدة، حتى لا نغرق في مائة عام مقبلة من الاستعمار والتبعية
واستبدلت بالإدارة العسكرية (OETA / South) إدارة مدنية في الأول من يوليو/ تموز 1920، عندما سلّم القائد العسكري الجنرال بولز إدارة فلسطين إلى المندوب السامي الجديد، هربرت صموئيل، وأبلغه أنه يريده أن يوقّع إيصالاً. وعندما تساءل صموئيل بارتباك بماذا؟ أجابه بولز: بـ"فلسطين"، وأظهر قصاصة من الورق مذيّلةً بالتاريخ وبمساحةً للتوقيع، تنصّ على: "تسلّمت فلسطين وحدة كاملة من الجنرال لويس ج. بولز". بعد تردّد، وقّع صموئيل، وأضاف "E & O.E" أي "باستثناء السهو والأخطاء". سجلّ صموئيل هذه الحكاية المشؤومة في مذكّراته، وبيعت القسيمة الأصلية في مزاد علني في نيويورك منذ سنوات عدة. ومع ذلك، كانت السلطة القانونية للانتداب في معظم فترة صموئيل معرّضة للتساؤل لأن عصبة الأمم صدقّت على الانتداب فقط في عام 1922، ولم يدخل حيّز التنفيذ حتى سبتمبر 1923. وبما أن اتفاقية السلام مع تركيا لم تُوقَّع حتى أغسطس/آب 1924، فقد كان الانتداب بين الأعوام 1920 و1924 سلطةَ الأمر الواقع (De Facto) التي ترأس الأراضي المحتلة، وكانت بهذا ملزمةً بالقيود المنصوص عليها في اتفاقية لاهاي لعام 1907. وبعبارة أخرى، لا تملك سلطة تغيير الوضع الراهن أو إدخال تدابير لها انعكاسات على المدى البعيد. وعلى أيّ حال، قد كان هذا موضع جدل، إذ اتضح تماماً أن البريطانيين لم يكن لديهم نيّة الوفاء بالالتزامات التي يُفترَض أن تطبّق بموجب الانتداب.
وطوال الفترة المتبقّية (المضطربة) من الانتداب البريطاني قي فلسطين، واصل مسؤولو الانتداب جهودهم للتوفيق بين احتياجات وأولويات العرب الفلسطينيين، والالتزام بإقامة وطن يهودي في فلسطين. وفي نهاية المطاف، انهار كل شيء في 15 مايو/ أيار من عام 1948، عندما تخلّى البريطانيون بسرعة عن الانتداب لصالح الأمم المتحدة. وهكذا وُلدت "الدولة اليهودية" في اليوم نفسه. وكان ما لحق ذلك من حروب وموت ودمار كان حتمياً، تنبّأ به مراقبون عرب وبريطانيون ودوليون عديدون منذ إعلان بلفور في 1917.
أصبحت "دبلوماسية السلام" على مدار الإدارات الأميركية مرادفةً للتغاضي المتعمّد عن الحقائق التاريخية
يعود الفضل الرئيس في إنهاء مذبحة غزّة إلى الرئيس الأميركي ترامب، إلا أن هذه المرحلة غاية في الخطورة والحساسية في الصراع الصهيوني العربي، ينبغي التعامل معها بيقظة شديدة، حتى لا نغرق في مائة عام مقبلة من الاستعمار والتبعية. وتشبه جولة ترامب الدبلوماسية أخيراً، إلى حدّ كبير، التدخّلات الأميركية السابقة في "الصراع الإسرائيلي - الفلسطيني" التي أصبحت مرادفةً للازدواجية واللامبالاة بالحقوق الأساسية للفلسطينيين. لا مبالغة في القول إن "دبلوماسية السلام" هذه أصبحت على مدار الإدارات الأميركية المتعاقبة مرادفةً للتغاضي المتعمّد عن الحقائق التاريخية الراسخة، إلى درجة أن العملية أصبحت أهم بكثير من السلام في "عملية السلام" تلك. وأصبح ينظر إلى التاريخ، مثلما ينظر إلى القانون الدولي، عقبتين يجب "التحايل عليهما" أو حتى تجاهلهما بشكل تام.
أمّا الذين يتجاهلون التاريخ فمحكوم عليهم بتكراره. لذا تعيين ترامب بلير (وآخرين) مثال حيّ على ذلك، بتغاضيه عن أكثر من مليون قتيل عراقي، بل هو أيضاً أسلوب استعماري راسخ، من الممكن تتبع أصوله منذ أوائل القرن العشرين، الأمر الذي حكم على الفلسطينيين (حذّروا بشدّة من أنه لا يمكن أن يكون هناك سلام من دون عدالة) بظلم تاريخي لا نهاية له. وفي هذا السياق، ومن جوانب أخرى، يبقى ماضي فلسطين إلى حدّ كبير هو حاضرها.
