صفعة صنع الله إبراهيم وأسئلة الراهن
عربي
منذ يوم
مشاركة
كما الصفعة، كانت الكلمة التي ألقاها الراحل صنع الله إبراهيم، في بيان رفضه جائزة ملتقى القاهرة للإبداع الروائي في دورته الثانية عام 2003، أمام وزير الثقافة في حينه، فاروق حسني، وحشد كبير جدّاً من الكتّاب المصريين والعرب. مضى على تلك الصفعة 22 عاماً، واستعادتها نقابةُ الصحافيين المصريين وأصدقاءُ الراحل وعائلته في حفل تأبين له قبل أيام، مختتمين الحفل بتسجيل مصوّر نادر لتلك الكلمة. ويعد هذا الحدث من أكثر الأحداث الثقافية أهميةً، لا المصرية فقط، بل العربية أيضاً، خلال القرن الحالي. لن يكون هناك حدث ثقافي بقوته ورمزيته، وهو لا يقلّ أهميةً عن رفض جان بول سارتر جائزة نوبل للآداب أو رفض مارلون براندو جائزة أوسكار. كانت مصر وقتها تتمتّع بمركزية ثقافية عربية غير مسبوقة، وكان لملتقى الرواية أهميته الكبرى عربياً، وجائزته ذات قيمة كبيرة، لا مادية فقط، بل معنوية أيضاً. ورفضها مع بيان يلقيه الفائز أمام حشد كبير من المثقّفين والمسؤولين، احتجاجاً على سياسة القمع الداخلي والتطبيع مع إسرائيل التي تنتهجها بلاده، فيها من البلاغة ما يتجاوز كثيراً رفض منحه الجائزة من دون ذكر الأسباب. كتب مزايدو الأنظمة وقتها أنه كان يعلم بنيله للجائزة، وكان يمكنه رفضها من دون هذا الاستعراض. لكنّهم تغاضوا عن ماهية القيمة من رفضه الجائزة في الكواليس إن لم يُعلن سبب رفضه لها، وهل من طريقةٍ مناسبةٍ لشرح أسباب الرفض أكثر من لحظة إعلان فوزه بها أمام عشرات المسؤولين ومئات المثقّفين العرب وعشرات الوسائل الإعلامية التي تنقل الحدث؟ تلك صفعة لم يسبق لمثقّف عربي أن وجّهها إلى منظومة سياسية أو ثقافية رسمية، وتحمّل كل هذا الثقل الذي كان يحمله ملتقى القاهرة برئاسة جابر عصفور. تلك صفعة نادرة واستثنائية، وأظن أن لا شيء مثلها سيحدُث في وقتنا العربي الحالي. فما ميّز موقف صنع الله رفضه الواضح التواطؤ الرمزي بين المثقّفين والأنظمة الحاكمة، التواطؤ الذي يحصل عبر التغاضي عن تجاوزاتها، عبر الصمت وعدم اتخاذ مواقف مبدئية من القمع أو التنازل عن القضايا الكبرى. يشكّل هذا الرفض قيمةً نادرةً لأن إطاره يحافظ على المواجهة بين صدق المثقّف واتساقه مع مبادئ يتكلّم عنها في أدبه، وتآكل مصداقيته عبر تساهله مع ممارسات النظام الحاكم بذريعة الواقعية أو العجز عن التغيير، وهي ذرائع واهية بطبيعة الحال، فموقف المثقّف ليس آنياً، بل هو للتاريخ والزمن، هو موقف تراكمي يُبنى عليه لما هو مقبل، هذا أساساً دور الثقافة: وضع أسس متينة للقيم العليا في المجتمع تمكّنه من إنجاز عملية التغيير الإيجابي في أوانها. والحال أنه لا يوجد في عالمنا العربي (في العقدَين الماضيين) مثقّف واحد له حضور وتاريخ ثقافي وأدبي استطاع أن يسجّل موقفاً مبدئياً متّسقاً مع مساره وفكره، سواء في حدود القضايا الوطنية المحلّية أو في القضايا القومية والإنسانية. مواقف المثقّفين منذ 2011 محكومة بالهُّويَّات الفرعية وبالمصالح الذاتية، أو ربّما بفهمٍ خاطئٍ لطبيعة المرحلة (وهذا أيضاً لا يمنحه صكّ براءة، فمن أدوار المثقف قراءة الواقع بعمق وتأنٍّ)، لكنّنا هنا لسنا بصدد الحديث، لا عن براءة ولا عن لائحة إدانة، بل عن تلك التكلفة الأخلاقية التي يدفعها المثقّف الصامت عن انتهاكات الأنظمة بأشكالها كلّها. هذه تكلفة قد لا تنعكس على سمعة المثقّف وعلى شهرته وانتشاره، فنحن حالياً في زمن شعبوي يجعل من أكثر المثقّفين التصاقاً بقضايا الثقافة ينزلقون نحو "ما يريده الجمهور". والشعوب العربية المتلفة من الحروب والفقر والجهل والتخلّف والقمع هي اليوم تركن نحو طمأنينة كاذبة، تقدّمها لها أنظمة تتلاعب بالانتماء الوطني لصالح هُويَّات ضيّقة تشدّ عصب الجموع في مجتمعات مفرّغة من عمقها الاجتماعي والثقافي. غير أن تكلفة صمت المثقّف اليوم سوف تؤسّس كوارثَ مجتمعيةً ووطنيةً أكبر من الحالية، والدليل أننا في 2011 سألنا في سورية: "بأيّ ثمن يُشترى صمت المثقّف، وبأيّ ثمن يباع تأثيره؟"... السؤال نفسه يطرح اليوم (2025) على المثقّف السوري (والعربي) مع ما يحدث في هذه البلاد المنكوبة.

أخبار ذات صلة.

( نوافذ يمنية) محرك بحث إخباري لا يتحمل أي مسؤولية قانونية عن المواد المنشورة فيه لأنها لا تعبر عن رأي الموقع..

جميع الحقوق محفوظة 2025 © نوافذ يمنية