
تُصارع حياكة صوف الغنم، التي تعد إحدى المهن النسائية التقليدية في القرى الريفية في اليمن، خطر الاندثار حيث تراجعت الحرفة العريقة التي كانت النساء يجلسن فيها في حلقات صغيرة حول أدوات الحياكة، وتُحوّل صوف الأغنام الخشن إلى خيوط ناعمة ومنسوجات تُستخدم في وقاية الأهالي من قسوة حرّ النهار وبرد الليل.
تتمسك المسنة الملقبة بـ أم عجائب بمهنة حياكة صوف الغنم، وتقضي ساعات طويلة أمام النول، وتقول لـ “منصة ريف اليمن”، “ظهري يوجعني وأصابعي تتشقق من شدّ الخيوط ودكّها، ورثنا هذه المهنة عن أمهاتنا وجداتنا رغم أنها متعبة جداً.
تشرح مراحل العمل في مهنة حياكة صوف الغنم، فتقول: أبدأ بقصّ صوف الغنم في الصيف، ثم أنقّيه واغسله، وافتله بالمغزل حتى يصير خيطاً. بعدها أمدّ السدى على الأرض وأثبّته بالمراسي، وأشتغل بالميشع والمِشْزَة، وأمرّر اللُّحْمَة صفاً بعد صف، حتى ينتج قماش متين يصلح للفرش أو لبيت الشعر.
مواضيع مقترحة
-
النساء وحياكة المعاوز: تراث ينسج بخيوط الكفاح
-
الجنبية.. إرث تاريخي راسخ ورمز هوية اليمنيين
-
صناعة الأواني الفخارية حِرْفَة يمنية تقاوم الكساد
حرفة تصارع للبقاء
رغم الجهود الكبيرة التي تبذلها، أم عجائب إلا أنها لم تجد ما يغطي متطلبات مهنتها، لكنها تشعر بالامتنان، قائلةً لـ “منصة ريف اليمن” يوجد أناس منصفون ويعطونني أضعاف جهدي كتَشجيع ودعم، يقولون لي: “استمري يا أم عجائب حرفة الحياكة لا تنقرض.”
في القرى والبوادي اليمنية، كان الحياكون جزءاً من دورة الحياة، يحملون مهنتهم من جيلٍ إلى جيل، ويجوبون البيوت يجمعون الشعر من أصحاب الغنم بعد الجزّ؛ ليحولوّه إلى خيوط وأقمشة.
يقول أبو جميل شريف، أحد وجهاء منطقة بني ضبيان بمحافظة صنعاء: “الحياكون كانوا يزورون الناس، يأخذون الشعر ويغزلونه بخبرة، ثم يصنعون منه فراشاً أو خياماً، لا غنى عنها في حياة البادية.”
يؤكد شرف لـ “منصة ريف اليمن” أن المهنة، رغم نفعها، لم تسلم من نظرة دونية؛ فبعض الناس اعتبروها أقل شأناً، وذلك أثراً من بقايا الجاهلية للأسف، كان يُعامَل الحياكون بعنصرية، كما يُطلَق عليهم في المناطق الشرقية، مع أنهم ركيزة أساسية في المجتمع. ويضيف:” اليوم، وقد اندثرت الحرفة، يزداد الوعي بقيمتها لو لم يكن الحياكون، لما عرفنا الخيوط ولا الأقمشة ولا الفُرش؛ كانوا أيدياً صابرة صنعت بيوت الصحراء.”
جزء من الحياة اليومية
في بني ضبيان ومحيطها من مراد وخولان والحداء، كانت الحِرَف اليدوية جزءًا أساسياً من الحياة اليومية، تبني بيت العروس وتُؤمِّن الدفء للأسر الريفية في تلك المناطق.
يقول أبو جميل شريف: “كان لدينا ثلاثة مجالات رئيسية: الحياكة من صوف الماعز والوبر، وصناعة الجلود، وتجهيز ما تحتاجه العروس من فُرُش ولِحاف وأدوات.”
ومن الأنواع التي يشتهر بها الحياكون: “الفرايد” و”اللحاف”المصنوعين من الصوف وشعر الماعز، و”الجِراب الجلدي” الواسع، كانت أساسيات لا غنى عنها. كما تميزت المنطقة بصناعة “شريط العروس” المزخرف بالفضة والألوان الطبيعية من تربة “رِحَب”، كمثالٍ على ذلك.

خلال السنوات الماضية تراجعت مهنة الحياكة في العديد من القرى الريفية في اليمن، لكنها لم تختفِ تمامًا، فما تزال حاضرة في مناطق البادية مثل خولان، بني ضبيان، قيفة رداع، وأطراف من محافظتيّ مأرب والجوف، حيث يكثر الغنم ويُعتمد على شعرها في صناعة الخيام والفُرُش.
تجدر الإشارة إلى أن استمرار هذه الحرفة مرتبط ارتباطًا وثيقًا بتربية الماشية؛ فحيثما ضعفت التربية ضعفت المهنة، وحيثما ظل القطيع حاضرًا وجد الحواكين رزقهم ودورهم، وهكذا تبقى الحرفة وثيقة الصلة بالبادية وحياتها اليومية.
طقوس جزّ الشعر
تقول أم مزنة، إحدى الحائكات: “ليس كل من يملك الغنم يحافظ على شعرها وطقوس جزِّها، إنما الأكثر شغفاً وحده هو الذي يصون هذه العادة.” وتضيف أم مزنة لـ “منصة ريف اليمن”: “يعرف المهتم أن جزَّ الشعر في أوانه راحة للغنم وزادٌ لأهله. حين يأتي الصيف، يجمع أهله ويهيئون الماشية، فيُجَزُّ الشعر بعناية”.
تبدأ مراحل جزِّ شعر الغنم بتنقيته، فيُضَفَّر بعناية حتى يتساقط الضعيف منه ويتبقى القوي. فالشعر القوي منه يُخزَّن خصيصاً لأغراض الغزل والنسج، بينما يُستفاد من الشعر الضعيف في تلبية الاحتياجات المنزلية.
يعتز ملاك الغنم بقطعانهم التي تُمثِّل امتداداً للجذور وعنواناً للسمعة، فالشَّعر الذي يُجَزُّ كل صيف ليس مجرد فائض، بل هو مورد أساسي للغزل والنسج ومؤشر للمكانة الاجتماعية.

يقول زين محمد: “ورثنا سلالة يشتد شعرها وتُستخدم منتجاتها في صناعات متينة. مضيفاً لـ” منصة ريف اليمن” ، إنها ليست مجرد ماشية، بل سمعة تُصان، ونحن نستفيد من شعرها كل عام.”
أما أبو صالح الضبياني فيقول لـ “منصة ريف اليمن”: “سلالتي أصيلة، شعرها ألين وأسهل غزلاً، نصنع منه خيوطاً خفيفة ترافق القوافل وتستر أهلنا.”
رمز للهوية البدوية
من بين الأثاث العصري، في اليمن يظل فراش شعر الغنم حاضراً كرمز للهوية البدوية فهو ليس مجرد فراش للنوم، بل حكاية أجيال ودفء الصحراء.
يقول المهتم بالتراث، الدماني السالمي: “تفننت نساء اليمن منذ قرون في حياكته بخيوط متينة وألوان بسيطة آسرة؛ لتخرج قطعة تجمع بين الراحة والجمال.”
يضيف السالمي لـ” منصة ريف اليمن”: “البدو في الخليج يقبلون عليه لأنه يذكّرهم بالصحراء وبيوت الشعر وليالي السمر، فيشترونه من اليمن، أو الشام، أو شمال أفريقيا كرمز للفخر والامتداد التراثي.”
أما عن خصائصه، فيوضح: “يقوم بدور عازل طبيعي للحرارة والبرودة، ويقاوم الشمس والرطوبة والمطر، لكنه يحتاج إلى تهوية وتنظيف دوري، اقتناء هذا الفراش هدية نفيسة لا تُقدَّم إلا لمن يستحق؛ لأنها تعبير عن وفاء واعتزاز بالتراث.”
يؤكد عوض المنصابي، وهو بائع أثاث، أن “الصوف يتميز بمقاومته للبلى والحرائق، لذلك استُخدم عبر التاريخ في السجاد والبطانيات والأثاث، وما يزال حتى اليوم علامة على الجودة والراحة.” ويشير إلى أن لهذه المنتجات حضوراً لافتاً في أسواق منطقته: جِحَانَة – السوق الكبير، والأَعْرُوش – خَوْلَان الطَّيَّال، ولها حضور أيضاً في أسواق صنعاء القديمة.

وأوضح المنصابي لـ “منصة ريف اليمن”: “هناك طلب متزايد من بعض الدول العربية لاقتنائها من اليمن كهدايا ثمينة، وذلك من خلال انتشار مواقع التواصل الاجتماعي، تعرَّف اليمنيون على ما يُنتَج في الدول العربية.”
ويختتم حديثه بالقول: “تَعَرَّفَ الكثير من العرب على ما يُنتَج من شعر الأغنام: كـ “الزَّعَل” و”الحَنَابِل”، و”الخِيَام” مما ساعد على إحياء المهنة بعد أن كانت في طريقها للانقراض.”
The post صوف الغنم.. مهنة الحياكة الريفية التي تُصارع الاندثار first appeared on ريف اليمن.