
عربي
في شوارع دمشق وريفها، كما في باقي المحافظات السورية، باتت جملة "السعر غير ثابت" جزءاً من الحياة اليومية للناس. فأسعار السلع تتبدّل من يوم إلى آخر، وأحياناً من ساعة إلى أخرى، في بلد تتراجع فيه القدرة الشرائية بسرعة تفوق أي محاولة للضبط. وسط هذه الفوضى، أصدرت وزارة الاقتصاد والصناعة القرار رقم 767، الذي يُلزم جميع المنتجين والمستوردين بتدوين السعر النهائي للمستهلك على كل منتج، بشكل واضح ومقروء، وباللغة العربية.
القرار، الذي وصفته الوزارة بأنه خطوة لحماية المستهلك وتعزيز الشفافية، يمنع عرض أو بيع أي سلعة لا يظهر سعرها النهائي على العبوة. كما منح المنتجين والمستوردين مهلة حتى 31 ديسمبر/ كانون الأول 2025 لتصريف بضائعهم القديمة غير المدوَّن عليها السعر، على أن تُعلن الأسعار للمواطنين على واجهة المحلات.
تفاوت الأسعار لا يُعدّ مخالفة
رغم وضوح القرار، فإن تطبيقه على أرض الواقع يبدو أكثر تعقيداً. فالأسواق السورية تعمل منذ أشهر ضمن نموذج السوق المفتوح، الذي يتيح لكل تاجر تحديد سعره وفقاً لكلفته الخاصة، وهو ما يفسّر التفاوت الكبير بين محل وآخر، حتى عند بيع السلعة نفسها. في السياق، يقول مدير حماية المستهلك في ريف دمشق، عبد السلام خالد، لـ"العربي الجديد إن "عملنا الرقابي يتركّز حالياً على التأكد من وجود السعر بشكل واضح ومقروء على كل منتج. اختلاف الأسعار بين محل وآخر لا يُعد مخالفة، ما دام كل تاجر يعلن عن سعره علناً. مهمتنا هي محاسبة من لا يضع السعر، لا من يضع سعراً أعلى أو أقل".
ويضيف خالد: "في حال وجود محلَّين متجاورَين يبيعان السلعة نفسها بأسعار مختلفة، فإن الزبون يملك حرية التوجّه إلى الأرخص. نحن لا نتدخل في تحديد السعر ضمن السوق الحر، إلا في حال المخالفات الجسيمة أو التلاعب المتعمّد". ويؤكد خالد أن "فرض تسعيرة موحدة أمر غير ممكن عملياً، نظراً لطبيعة السوق المفتوح، حيث يحدد التاجر سعره بناءً على تكاليفه ومصدر بضاعته". كما يشير إلى أن المخالفات المتكررة لعدم الإعلان عن الأسعار أو التلاعب بها "قد تؤدي إلى إغلاق المحل وتشميعه، خصوصاً في حالات بيع سلع فاسدة أو منتهية الصلاحية".
بدوره، يقول خالد العمري، أحد أصحاب المحال في منطقة المزة، لـ"العربي الجديد" إن "الأسعار تختلف من محل لآخر حسب المورد وسعر الصرف اليومي. لا يوجد شيء اسمه تسعيرة ثابتة. إذا اشترى تاجر سلعة بالدولار وتغيّر السعر خلال يومين، فهذا وحده كفيل برفع التسعيرة".
من جهتهم، يرى مواطنون أن القرار الجديد لن يغيّر واقعهم ما لم ترافقه رقابة فعلية. وتقول شادية القحف، موظفة في شركة خاصة بدمشق، لـ"العربي الجديد": "التاجر اليوم يغيّر السعر وقتما يشاء، حتى لو كان مكتوباً على العبوة. ما يهمنا ليس رؤية السعر فقط، بل أن يكون السعر عادلاً ومراقباً". ويضيف مضر شحادة، وهو موظف متقاعد، لـ"العربي الجديد": "إذا لم تكن هناك جهة تضبط التكاليف وتمنع رفع الأسعار غير المبرر، فإن كتابة السعر على المنتج ستكون مجرد إجراء شكلي".
بين السوق الحر وواجب الرقابة
يعكس القرار رقم 767 توجهاً حكومياً معلناً نحو اقتصاد السوق الحر، بعد عقود من السيطرة المركزية للدولة. ويقوم هذا النموذج على حرية الأفراد في النشاط الاقتصادي وملكية وسائل الإنتاج الخاصة، فيما يقتصر دور الدولة على تنظيم الإطار العام للسوق. ورحّبت أوساط اقتصادية بهذه الخطوة، معتبرةً أنها محاولة لإعادة تعريف هوية الاقتصاد السوري. غير أن محللين يرون أن تحرير السوق من دون أدوات رقابية فعّالة يفتح الباب لمزيد من الفوضى، ويزيد من الضغوط على المستهلكين في ظل تآكل القدرة الشرائية.
في المقابل، يرى مراقبون أن نجاح القرار الجديد سيبقى مرهوناً بمدى قدرة الحكومة على فرض آليات رقابية فعالة على الأسواق وضبط التجاوزات. فكتابة الأسعار على المنتجات لا تعني بالضرورة توحيدها أو منع استغلالها، خاصة في ظل تقلبات سعر الصرف وغياب أدوات الحماية الفعلية. ويختم مدير حماية المستهلك في ريف دمشق، عبد السلام خالد، بالقول لـ"العربي الجديد": "التسعيرة الواضحة خطوة أولى، لكنها ليست الحل الكامل. المطلوب وعي من التجار، ورقابة حقيقية من الدولة، واختيار واعٍ من المستهلك".
