
أعد التقرير لـ”يمن ديلي نيوز” كمال محمد:
في الارشيف اليمني المثقل بالحكايات، ثمة أسماء تجاوزت مهمة التدوين لتصبح عناوين فارقة؛ تُكتب، بومض الرصاص الأول والدم المُشرق، لا بالحبر.
الشيخ راجح بن غالب لبوزة ليس مجرد بطل وُضِع اسمه على نصب تذكاري، بل هو الفصل الافتتاحي في كتاب الكفاح المسلح ضد الاستعمار البريطاني.
إنه الرجل الذي اختار اختصار المسافة بين الحلم والتحرير، عبر رفض قاطع للمساومة على شبر من تراب ردفان. ومن هنا، تبدأ القصة التي تُعيد طرح السؤال الأبدي عن ثمن الكرامة.
وُلد لبوزة عام 1917 في قلب جبال لحج الشاهقة، ولم يكن قادماً من مدارس السياسة أو صالونات النخب. كانت خلفيته قِبَلية أصيلة، نبعت من بيئة صاغت فيه العناد الوطني كفطرة أولى لا تعرف الذل.
هذه النشأة هي التي جعلته يدرك مبكراً أن الإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس، هي قوة تنهار أمام الإرادة المتجذرة في الأرض. ولهذا، لم يكن لبوزة ينتظر الإذن ليبدأ؛ فمنذ الأربعينيات، وُضع على قائمة “الخطرين”، لتبنيه مبدأ المقاومة المسلحة، ما دفع به لاتخاذ كهوف ردفان مقراً سرياً، يتنفس منه هواء الحرية. لكن المصير كان يعد له دوراً أعظم، يتجاوز حدود منطقته الضيقة.
لم تكن قصة لبوزة لتكتمل لولا ذلك الإدراك العميق للربط بين مصائر الوطن. فبعد نجاح ثورة 26 سبتمبر 1962 في شمال اليمن، كانت لفتته البطولية التي لا تُنسى: غادر الجنوب المحتل متجهاً إلى الشمال ليشارك في الدفاع عن الثورة الجمهورية ضد فلول الإمامة.
لم تكن هذه مغامرة عسكرية عابرة، بل كانت تأكيداً مبكراً لوحدة الدم والمصير اليمني.
عاد في أواخر أغسطس 1963 بيقين راسخ: قضيتي الشمال والجنوب هما فعلاً وجهان لعملة الحرية الواحدة، والتحرير في الجنوب لن يأتي إلا بشرارة مسلحة يطلقها أبناؤه. كانت هذه القناعة هي البوصلة التي وجهته نحو أهم حدث في حياته، ولكن كيف تُعلن ثورة في وجه أعتى قوة استعمارية؟
الإجابة لم تكن في بيان سياسي مُنمق، بل في رد فعل عنيد على استعلاء القوة، عندما علم به الضابط البريطاني “ني ميلن”، أرسل إليه إنذاراً متعجرفاً يطالبه فيه بتسليم نفسه وسلاحه، ظناً بأن سلطة شيخ قبلي ستنهار أمام هيبة القوة العظمى.
عقد لبوزة اجتماعاً مع رفاقه، فكان الإجماع على الرفض المطلق، ولم يكتفِ لبوزة ورجاله بالرد المكتوب الذي أكد فيه تبعيتهم للجمهورية العربية اليمنية. بل أراد أن يختصر المشهد كله في لفتة تتجاوز البلاغة السياسية إلى الرمز المُفجّر.
سحب من حزامه طلقة رصاص عيار “عيلمان”، ووضعها داخل المظروف الذي يحمل الرد، وطلب من الرسول إبلاغ المحتلين أن: “هذا هو العيار الوحيد الذي نملكه للرد”.
لم تكن تلك الطلقة مجرد ذخيرة؛ كانت بيان الثورة الأوضح والأكثر فصاحة. كانت اختزالاً عبقرياً للغة التفاوض إلى لغة الدم والجهاد، وشهادة ميلاد للكفاح المسلح.
هذا الفعل الجريء هو ما وضعه في صدارة الأيقونات التحررية؛ لقد أظهر أن كرامة الأوطان ليست حكراً على النخب، بل هي قرار شعبي يخرج من عمق الجبل.
وهنا بدأت البطولة تأخذ مجراها الذي لا يُحتمل. لم تترك هذه الجرأة أمام الإنجليز خياراً سوى المواجهة.
ففي صباح يوم 14 أكتوبر/تشرين الأول 1963، قاد لبوزة ورجاله معركة غير متكافئة في ردفان ضد قوات احتلال مدججة بالمدفعية والطيران.
تكمن عظمة لبوزة هنا في كونه المحفز الأسطوري الذي جعل من قتاله أول مواجهة مسلحة منظمة، مستخدماً تكتيكات حرب العصابات، مما أدى إلى إرباك العدو وإجباره على تركيز نيرانه الثقيلة.
كانت هذه البطولة العسكرية هي التي مهدت لاحقاً لإنشاء الجبهة القومية وبدء العمليات الفدائية في عدن وغيرها من جبهات الجنوب.
وفي ظهيرة يوم المعركة، وتحت وابل من قذائف المدافع البريطانية، ارتقى راجح بن غالب لبوزة شهيداً متأثراً بشظية اخترقت جسده، ليصبح مفجر الشرارة الأولى وأول شهيد للثورة لكن الرجل لم يمت، بل تحول إلى أسطورة وطنية حية.
إن مكانة لبوزة اليوم في وجدان اليمنيين هي القمة؛ إنه “شهيد التأسيس” الذي دفع الثمن الأغلى ليُمهد الطريق، وحوّل موته إلى نداء تعبئة أزلي.
لقد تحول جثمانه المدفون في قرية الذنب بردفان إلى ميثاق، حيث أقسمت الجماهير على مواصلة المسيرة، ليتحول قسمهم إلى واقع: جلاء المستعمر في 30 نوفمبر 1967.
إن سيرة راجح بن غالب لبوزة هي تذكرة دائمة بأن الإرادة لا تُقاس بحجم الجيوش، بل بصدق التضحية الأولى.
لقد كان الرجل ميزاناً وطنياً وضع دمه في كفة، وسلطة الإمبراطورية في الكفة الأخرى، فترجحت كفة الدم.
تظل قصته، من شيخ قبلي إلى أيقونة عالمية للتحرر، دليلاً قاطعاً على أن القوة الحقيقية تكمن في الإيمان بوطن لا يقبل القسمة ولا الهيمنة، وأن شموخ ردفان هو امتداد لشموخ أرواح الأبطال التي ارتفعت من ترابها.
لكن، وفي ظل تعقيدات المشهد الراهن، يظل السؤال الذي تثيره ذكرى 14 أكتوبر معلقاً في هواء ردفان: هل يمكن لروح لبوزة وعناده الأسطوري أن تعيد تعريف الكرامة الوطنية في الأجيال الجديدة، أم أن الأوطان اكتفت بالاحتفال بمن صنعوا التحرير وتخلت عن قيمه الجوهرية؟
ظهرت المقالة بروفايل: راجح لبوزة.. رصاصة الثورة وشيخ القبيلة الذي أسقط الاحتلال أولاً على يمن ديلي نيوز Yemen Daily News.