قطر والسعودية… دبلوماسية عربية تصنع السلام
عربي
منذ 5 أيام
مشاركة
حين نعاود اجتراح الأمل فوق ركام غزة، فليس لأنّ الحرب توقفت صدفةً، أو لأن العالم خُيِّر بين الاقتناع واللامبالاة، بل لأنّ الغرب، بقيادة إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب، اختار الصمت المريب أمام المجازر، وشرّع للاحتلال أن يقتل تحت ذريعة "الدفاع عن النفس". بدت الإنسانية عارية إلّا من ازدواجية المعايير، وتواطؤٍ يفضح قبح السياسة حين تنحاز للقاتل لا للضحية. الاتفاق الأخير لوقف إطلاق النار في غزة لم يكن هبةً من قوى عالمية، بل مكافأة لمن صمد، ولمن آمن بأن الدبلوماسية ليست ترفاً بل هي سلاحٌ. لقد بدا واضحاً أن من يقود بيت الضغط في الكواليس هو من يملك النفوذ الحقيقي، فكانت قطر في مقدمة تلك القوى التي تحركت لتُعيد الروح إلى المدنية. منذ اللحظة الأولى لتصاعد المواجهة، اختارت الدوحة أن تتدخل لا بوصفها طرفاً عابراً، بل بصفتها وسيطاً شجاعاً يحمل الجمر بيديه. فتحت قنوات الاتصال، نسّقت بين الأطراف، وأبقت خيوط الحوار متصلة في أصعب الظروف. صرّحت مبكراً بأن "قطر لن تدخر جهداً تجاه الفلسطينيين"، فلم يكن ذلك شعاراً، بل ذلك التزام عملي تُرجم إلى وساطة مباشرة بالتنسيق مع مصر وتركيا والولايات المتحدة، حتّى جرى التوصل إلى اتفاق وقفٍ شاملٍ لإطلاق النار، وانسحابٍ تدريجي للقوات الإسرائيلية، ودخولٍ منظمٍ للمساعدات الإنسانية. لم تكتفِ الدوحة بالوساطة، بل شاركت في آلية المراقبة الدولية الثلاثية، ودعت إلى التزامٍ صارمٍ بتنفيذ البنود. وفي تصريحات متكرّرة، شدّدت على أن حماية المدنيين الفلسطينيين ليست بنداً تفاوضياً، بل هو واجب أخلاقيّ وسياسيّ لا تهاون فيه. الموقف القطري تحوّل إلى نقطة ارتكاز دبلوماسية عربية، أعادت للعالم صورة الوساطة الخليجية القادرة على صناعة الفعل هذا الموقف القطري المتماسك لم يكن جديداً، لكنّه في هذه الحرب تحوّل إلى نقطة ارتكاز دبلوماسية عربية، أعادت للعالم صورة الوساطة الخليجية القادرة على صناعة الفعل لا الاكتفاء بالتعليق عليه. السعودية، من جانبها، وعلى الرغم من استراتيجيتها العامة الموجّهة نحو ضبط التوازن الإقليمي، فرضت نفسها في المشهد داعماً لا يُستهان به. تناغمها مع الدوحة أظهر أن خيار السلام ليس عرضاً هلامياً، بل خيارٌ جماعيٌّ ارتكز على توافقٍ خليجيٍّ يضغط بفعالية على الأطراف المعنية، ولم يقتصر النشاط على الضغط الخفي أو الوساطة الصامتة، بل دخلت الرياض على خط المواجهة الدبلوماسي عبر مبادرةٍ عالميةٍ لإحياء الاعتراف بدولة فلسطين وحل الدولتين. ففي المؤتمر الدولي لتنفيذ حل الدولتين والتسوية السلمية لقضية فلسطين، الذي دعت إليه السعودية بالتنسيق مع فرنسا قبيل اجتماعات الأمم المتحدة، جرى تبنّي "إعلان نيويورك" الذي أكد ضرورة الاعتراف بدولة فلسطين جزءاً لا يتجزأ من الحل العادل. خلال كلماتهم أثناء جلسات الأمم المتحدة، شنّ زعماء العالم هجوماً على استمرار الانتهاكات، وأعلنوا دعمهم الصريح للاعتراف بدولة فلسطين. الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون أكد أن "الوقت قد حان للاعتراف بفلسطين دولةً حرة"، بينما أعلنت بريطانيا أنها ستتخذ خطوة الاعتراف رسمياً إذا لم تُقدِّم إسرائيل أي التزاماتٍ ملموسةٍ نحو السلام. أما إسرائيل فقد رفضت المبادرة بشراسة، مدعومةً بموقفٍ أميركيٍ واضحٍ من إدارة ترامب التي رأت أن أي اعترافٍ أحاديٍّ يُمثل تجاوزاً لرعايتها الحصرية للمفاوضات. ومع ذلك، نجحت الرياض ومعها العواصم الخليجية في إعادة قضية فلسطين إلى مركز الطاولة الدولية بعد أن ظنّ البعض أنها خرجت منها إلى الأبد. دخلت الرياض خط المواجهة الدبلوماسي عبر مبادرةٍ عالميةٍ لإحياء الاعتراف بدولة فلسطين ولم تكن الدبلوماسية الخليجية وحدها الحاضرة في الميدان، بل رافقها دعمٌ إنسانيٌّ وإغاثيٌّ جسّد البعد الأخلاقي والسياسي للموقف، فقد تحركت قطر بسرعةٍ استثنائية لإرسال الجسور الجوية والمساعدات الطبية والتموينية إلى غزة عبر وزارة الخارجية والهلال الأحمر القطري، وأعلنت تمويلها الكامل لإعادة تشغيل المستشفيات الميدانية في جنوب القطاع، فضلاً عن مساهمات "قطر الخيرية" و"مؤسسة التعليم فوق الجميع" في دعم مراكز الإيواء ورعاية الأطفال المتضرّرين، كما أسهمت الدول الخليجية الأخرى عبر مؤسساتها الرسمية وهيئاتها الإنسانية، في إرسال مئات الأطنان من الإغاثات والمواد الطبية العاجلة، ضمن تنسيقٍ مشتركٍ أشرفت عليه اللجنة الخليجية العليا للإغاثة. يُخيَّل للبعض أن هذا الاتفاق مرحلةٌ مؤقتة أو هدنةٌ عابرة في مسارٍ طويلٍ من الدم والخذلان، لكن من يتأمل تفاصيله يدرك أنه ثمرةُ صمودٍ وصبرٍ ودبلوماسيةٍ عربيةٍ نضجت في لحظةٍ كان العالم فيها يتواطأ بالصمت. فحين غاب صوت العدالة، تكلمت عواصم خليجية بلهجةٍ مختلفة؛ لا صراخ فيها ولا شعارات، بل فعلٌ سياسيٌّ متزنٌ قاد إلى إنقاذ الأرواح وفتح بوابةٍ جديدةٍ للأمل. لقد أثبتت قطر والسعودية، أن التوازن بين القوة والضمير ممكن، وأن الدبلوماسية العربية لم تَمُت كما أراد البعض أن يُصوّرها. فوقف النار في غزة لم يكن استراحةً بين حربين، بل ولادةً جديدةً لمعنى الوساطة العربية حين تُمارس بصدقٍ وشجاعة. إنّ من يملك القدرة على فرض التهدئة يملك أيضاً حق المشاركة في صياغة السلام. وها هي الدوحة والرياض تقدّمان نموذجاً حيّاً في أنّ السياسة ليست إدارة مصالح فحسب، بل أيضاً صيانةٌ للكرامة الإنسانية. وإذا كان هذا الاتفاق قد أوقف القصف، فإنّ الواجب الآن أن يُحوِّل العرب هذا النصر الدبلوماسي إلى مشروعٍ دائمٍ للسلام العادل؛ سلامٍ يُعيد إلى غزة الحياة، وإلى فلسطين الدولة، وإلى العالم شيئاً من ضميره المفقود.

أخبار ذات صلة.

( نوافذ يمنية) محرك بحث إخباري لا يتحمل أي مسؤولية قانونية عن المواد المنشورة فيه لأنها لا تعبر عن رأي الموقع..

جميع الحقوق محفوظة 2025 © نوافذ يمنية