
عربي
مرّت على السوريين أيام كهذه مرّات كثيرة في التاريخ. تكيّفوا، صمدوا، اخترعوا أسباباً للبقاء. حفروا الصخر وزرعوا فيه قمحهم، تحايلوا على صعوبات الحياة، ووجدوا سبيلاً للاستمرار. أرسلوا أبناءهم إلى أقصى الأرض بحثاً عن فرصة جديدة.
سورية التي اشتهرت يوما بأنها "بلد الطوابير" حيث كان الوقوف أمام الأفران طقساً يومياً، وحّد أبناء هذه البلاد رغم اختلافهم، واختزل وجع العيش، ليتجاوز المشهد مفهوم انتظار الطعام، فاضحاً هشاشة الكرامة في بلد يعتبر من أغنى بلدان العالم بالثروات وأفقرها بنزاهة حكوماتها، ولكن حين يبلغ العجز منتهاه ويلغى الوسط، يعلو صوت الكرامة "أكون أو لا أكون" عندها تتنفس جدران البيوت التي ضاقت بالبؤس، وتزرع البذور على الشرفات والأسطح، لتكون بمثابة إعلان صامت بأن تأمين الطعام يمكن أن يكون فعل مقاومة، وأن الكرامة لا تُخبز في الأفران فقط، بل تُزرع وتُحصد.
نروي هنا حكايات التحوّل، عن أمهات اخترن الزراعة حلاً لإشباع البطون والكرامة، عن مزارعين لم يثنهم ضعف الإمكانات وشحّ الموارد، فأعادوا صياغة معنى الاكتفاء، عن جيل نزع عنه طيش الحياة واختار المسؤولية قراراً، باختصار، هي حكاية شعب أعاد تدوير التراب وحتى المفاهيم.
في قرية وادي المجاور في ريف طرطوس، يقف أبو مازن أمام باب فرنه شاهداً على التحوّل العميق الذي حصل في حياة الناس، حين أصبح تأمين الطعام فعلاً من أفعال المقاومة اليومية
من الطابور إلى التنّور
قد يتأقلم البعض قسراً أو طوعاً مع المفهوم الببغائي "العادي" وكأنهم كائنات مهجّنة في بيئة لم تشبههم يوماً. نوع من التأقلم لقصد العيش، ومنهم من رفض هذا الذوبان المهين، فسقط الموت شهقة واحدة، فلتكن بكرامة، هكذا عبرت "محاسن عبدلله - أم سليمان" هي سيدة خمسينية من قرية المجوي- مصياف، تعمل في زاوية فرن صغير، تنبعث منه رائحة الخبز الساخن، تحكي وجنتاها المتقدتان بنار التنور حكاية امرأة سورية عجنها الوجع ومنه تعلمت عجن الطحين، تقول: "سابقا كان لأبو سليمان وأولادنا راتب ثابت، رغم ضآلته كان يسد بعض الرمق، وبعد فصلهم من وظائفهم، وإغلاق أبواب الدخل، تهاوت أعمدة الاستقرار، وبدأت رحلة الجوع، تحمّلتُ طوابير الخبز والغاز، بِعتُ حصتي من مازوت التدفئة، وحملتُ الحطب مع أولادي لدرء برد الشتاء، إلا أن الأوضاع تتسارع باتجاه الأسوأ، وهنا حياة الجوع لا تقبل بأنصاف الحلول، قد تصنع منك إنساناً حديدياً أو عوداً يُكسر بسهولة، فجميع الخسارات سهلة أمام الكرامة، وفعل المقاومة دوماً قرارٌ صائب.
لتختصر تجربتها بصوت يشبه الخريف بحزنه: "لم يكن خيار العمل في الفرن مجرد وسيلة لكسب العيش، بل قراراً لإحياء الكرامة الجريحة، فضلاً عن شعور الرضى الذي يخفف من وطأة التعب والإرهاق" اليوم، تعمل أم سليمان وولديها ليعيلوا أفراد العائلة المؤلفة من ثمانية أشخاص، فقد علّمت ولديها كيفية صنع العجين والخبز، وتجاوزت نفسياً عادة انتظار الراتب الشهري، وتعيش كل يوم بيومه راضية مرضيّة، كما تحمّل النظام السوري السابق مسؤولية ما آلت إليه أوضاع البلاد، "اللّي عملوا بشّار الأسد بسورية، ما عملو رئيس بكل الدول، اليوم الشباب قاعدة بلا شغل والناس جوعانة.
التراب أحنّ من الدولة
في قرية وادي المجاور في ريف طرطوس، يقف أبو مازن أمام باب فرنه شاهداً على التحوّل العميق الذي حصل في حياة الناس، حين أصبح تأمين الطعام فعلاً من أفعال المقاومة اليومية، يقول: "سابقاً، اصطف الناس في طوابير امتدت لمئات الأمتار، ينتظرون دورهم لاستلام ربطة خبز لا بأس إن كانت يابسة أو ناقصة، أما اليوم، فناسٌ كثيرون لا يملكون ثمنها، وعند سؤاله عن دوره في هذا الواقع المؤلم، أجاب:" لا أستطيع توزيع الخبز مجاناً، ولكنني أخفّض السعر للأشخاص معدومي الحال، وفي البرد القارس أمنحهم بعض الحطب، فمعظمنا يعاني من وطأة الضغوط، ولا ينبغي أن نغفل عن بعضنا بعض"، يقول جملته وتعابير وجهه الستيني تختصر الحكاية، أشار أبو مازن إلى ظاهرة هجرة الشباب التي تزامنت مع ظاهرة "السفربرلك النسائي" إلى دول الخليج وأوروبا لإعالة الأهل، عائلات أخرى تحايلت على الذل، واقتلعوا الأزهار من أحواض الزينة لزراعة البقدونس والنعناع، منهم من استغل مساحة البلكون وأسطح المنازل، ليوسع مشروع الكرامة وأنا منهم، فزرعوا البندورة والبطاطا في صناديق من "الفلّين" وحتى القمح أحياناً، وصاروا يأكلون مما تزرعه أيديهم.
"بدنا دولة ما تسرقنا قبل الحصاد"
العم "جورج خوري" فلاح سوري ابن 75 عاماً، من قرية الكفرون، تختزل خطوط وجهه العميقة مسيرة العمر، قال: "لا أسأل عن الأرباح، ولا أنتظر دعماً من أحد، كل ما أريده هو أن أطعم أولادي دون أن أمد يدي لأحد في ظل ما نعيشه، ما زلنا نزرع رغم غلاء البذور وفسادها، وإذا وجدت البذار الجيدة، فاق سعرها الإمكانات المادية، لقد وصل الفساد إلى التلاعب بالمبيدات الحشرية منتهية الصلاحية، والمبيعة بتاريخ مزوّر، ويشير إلى كيس مركون على بعد أمتار قد اشتراه بـ 40 ألف ليرة سورية، وبسببه ماتت معظم الشتلات بدل الحشرات، ومع ذلك يزرع، فالزراعة ميراث قديم، فقد زرع الفلاح السوري القمح أثناء المجاعة، وحماها خلال الاحتلالات، كما شارك فن الزراعة مع أولاده، أما اليوم، فيجري فلاحنا السوري وراء ربطة الخبز، وبرأيه سرقة سورية وانتهاك اقتصادها لم يقتصرا على المصارف فقط، بل تضمنا المواسم وراحة البال، وأصبح التراب كالرغيف رهناً للفساد، فالزراعة اليوم هي حقاً فعل مقاومة، فكل شتلة وكل رغيف، وحتى كل حبة حنطة زرعها طفل في المرحلة الابتدائية في صحن مرطّب بالماء والقطن، هي صرخة بوجه الذل، بتنا نأكل خبزنا كفاف يومنا، ويختتم بجملة تمثل كل سوري معمّدا بالكرامة: "نحنا ما بدنا شي غير انو نزرع بكرامة ونبقى ببيوتنا وأرضنا، بس بدنا دولة ما تسرقنا قبل ما يجي الحصاد".
شباب على قيد الأمل
العشريني عمّار سلامة ابن قرية عيون الوادي، ولد في حمص ودرس في جامعتها، وانتقل لاحقا إلى قريته، "سلامة" كأقرانه من الشباب يحمل على جسده وروحه ندوب الحرب، ليس من خلف الشاشات بل من قلب الحدث، فأصوات القذائف كانت توقظ أحلامه وتعلّق طموحاته. ورغم ذلك، لم تثنه الظروف عن المثابرة، فبدأ بالعمل نهاراً والدراسة ليلاً، محاولة منه أن يصنع مستقبلاً لا يشبه ماضيه الملوث بالذل والخذلان، فاستغنى عن حقوق عمر الشباب، وعمل بزراعة الدخان ليشتري مستقبله، يحلم بالهجرة بحثاً عن فرصة تليق بمجهوده، لا تُقاس بالخوف بل بالنجاة. ليس عمّار ليس مجرّد شاب، بل حكاية صمود تمشي على قدمين، وترفض أن تكون ضحية آثام لا ذنب له بها سوى أنه ابن هذه البلاد، هو نموذج لجيل اختار المقاومة، بالعمل، والعلم، وما زال على قيد الأمل والانتظار.
الاقتصاد السوري في غرفة الإنعاش
في السياق، يقول الخبير الاقتصادي ناظم عيد: "الأزمة فعلا قائمة، وبشكل أوضح خلال السنوات الأخيرة من عمر النظام البائد، بسبب قلة مصادر الإمداد من الخارج وإفلاس الدولة، وعدم قدرتها على دفع ثمن القمح، وكان الاعتماد على إيران بالدرجة الأولى عبر ما كان يسمّى الخط الائتماني. وطبعاً لم يكن القمح والدقيق المستورد إيرانياً، بل غالباً قمح ودقيق روسي، ولأن مناطق زراعة القمح خارجة عن سيطرة الدولة "الحسكة ودير الزور والرقّة وأرياف حلب"، بالتالي لا غرابة في حصول أزمة قمح في البلاد.
كان لنبات الغار في التاريخ السوري ارتباط عميق بمناطق متباعدة جمعتها هذه الشجرة المباركة
وعلى الرغم من توفر مساحات كبيرة من الأراضي، كانت المشكلة هنا في عدم توفر مستلزمات الإنتاج، ولا سيما المحروقات اللازمة للري والأسمدة والمبيدات، والأعلاف بالنسبة للشقّ الحيواني، إضافة إلى تراجع معدّلات الهاطل المطري الذي تعتمد عليه مساحات كبيرة من المساحات الصالحة للزراعة في سورية، إلى درجة أن الزراعة البعلية خرجت بشكل شبه تام من الحسابات، وربما علينا أن نعترف بحقيقة الإدارة الخاطئة للموارد الزراعية وإهمال القطاع. والنتيجة تراجع كبير للزراعة في الناتج الإجمالي المحلي، ولا بد من التذكير بأن مساهمة الزراعة في الناتج كانت في 2005 أكثر من 30% لكنها تراجعت إلى حدود هزيلة لا تتناسب مع كون سورية بلدا زراعيا بامتياز.
وفي ما يتعلق بالزراعة المنزلية يقول عيد "تعتبر الزراعة المنزلية نوعاً من أنواع التدبير والسعي للاكتفاء الذاتي للأسر ولو بالحدود الدنيا، وأظنها حالة إيجابية، وهي تقليد درج في الكثير من الدول ذات الاقتصادات المنتعشة، لذا لا يمكن ربطها كلياً بالوضع الاقتصادي والأزمات. وفي سورية، هناك محاولات لكنها لم تنتشر على نطاق واسع كما يجب، على الرغم من الحاجة إليها، لكني لا أظن أنه يمكننا الحديث عن انهيار بمعنى الانهيار في المنظومة الاقتصادية الرسمية، إذا لدينا موارد تحتاج إلى إدارة صحيحة، وسنكون حينها بخير. وبرأيه، تؤثّر هجرة الشباب على أي بلد يصدّر كفاءاته إلى الخارج، وهجرة الشباب السوري تشكل حالة "فوات منفعة" للبلد بكل تأكيد، لكن في ظل حالة العطالة المزمنة وانعدام جدوى الاستثمار في مختلف القطاعات وتراجع العائدات الحقيقية، يرى أن هجرة الشباب شكلت عاملاً إيجابياً لجهة التحويلات النقدية التي يحققونها للبلد، وهذه تدخل في حسابات الناتج القومي الذي ارتفع مقابل معدل الناتج المحلي في ظل عدم وجود فرص حقيقية تبدو هجرة الشباب أفضل من بقائهم، ريثما تتوازن بيئة العمل والاستثمار في سورية. وهي بيئة مرتبكة تاريخياً، فطالما كانت سورية بلدا طاردا للكفاءات بشكل أو بآخر منذ عقود طويلة.
الحلول في إعادة هيكلة الاقتصاد
"نحتاج لائحة أولويات على أساس الاحتياجات المحلية أولاً، ثم الميزات النسبية والمطلقة للقطاعات ثانياً، وإعادة النظر في إدارة الموارد ثالثاً، عندها ستتوازن بيئة العمل. ودوماً يجب تعزيز قطاعات الإنتاج الحقيقي، ودعمها في مختلف مراحل الإنتاج والتصدير، وعدم حصر التركيز في القطاعات الريعية، فسورية بلد موارد وتنوع اقتصادي يجب أن ينهض مع الإدارة الجديدة للبلاد".
كان لنبات الغار في التاريخ السوري ارتباط عميق بمناطق متباعدة جمعتها هذه الشجرة المباركة
الغار وشهداؤه.. الجبال التي حفظت الودّ قروناً
في منتصف حزيران/ يونيو الماضي، وضمن سلسلة حوادث جاءت امتداداً للمجزرة في الساحل السوري في مارس/ آذار، قُتل ثلاثة شبان من قرية درميني، فيما كانوا يجمعون أوراق الغار من الجبال، كما اعتاد أجدادهم أن يفعلوا منذ مئات السنين.
وقع القتل لأسباب طائفية واضحة ومباشرة، والشهود قالوا إنه تم إيقاف الشبان على حاجز يقف عليه متطوعون جدد في قوات الأمن، رأوا أكياس الغار التي يحملونها، فسألوهم: ما طائفتكم؟ وحين أجابوا أطلقوا عليهم الرصاص بهدوء وبدم بارد، وتركوا جثثهم في العراء لأيام، قبل أن يتجرأ أهلهم على سحبها ودفنها.
أطلقت وسائل الإعلام على الضحايا اسم "شهداء الغار" في مقاربة دلالية تمزج بين مقتل فلاحين فقراء لمجرّد انتمائهم الطائفي في أثناء سعيهم وراء لقمة عيشهم، وارتباط الغار في الثقافة الشرقية بمفاهيم البطولة وخوض حروب الدفاع عن الأرض. وقد كان الغار إكليلاً لأبطال الحروب، وصار إكليلاً لشهداء لقمة العيش.
وقد كان لنبات الغار في التاريخ السوري ارتباط عميق بمناطق متباعدة جمعتها هذه الشجرة المباركة، فعبر التاريخ كان سكان الساحل السوري يجمعون ورق الغار عن أشجاره في موسم الصيف، وفق تقاليد تحافظ على استدامة الشجرة. ويستخرجون منه الزيت العِطري، أو يجففونه على شكل أوراق. وبسببه نشأت صلات وعلاقات اجتماعية مع أهل حلب أشهر من صنعوا صابون الغار في العالم، حتى ارتبط باسمهم، فصار يطلق عليه: صابون الغار، أو الصابون الحلبي، أو صابون حلب.
في الساحل السوري، تنتشر ورش صغيرة تعالج الورق الذي جمعه الفلاحون على شكل زيت أو أوراق أو ثمار، وتعيد بيعه لمعامل الصابون أو تصدّره إلى الخارج ليستخدم في الصناعات التجميلية والطبية.
وفي بيئة تفتقر لمشاريع صناعية وزراعية كبيرة، وأفقرها النظام المخلوع عمداً، يشكّل الغار مصدر رزق لأسرٍ كثيرة في قرى الجبال الساحلية ووادي النصارى. وفي موسم قطاف الغار الذي يبدأ عادةً في أواخر حزيران ويمتد حتى منتصف أغسطس/ آب، تخرج العائلات بكاملها إلى الجبال العالية بأدواتها البسيطة، حيث تنمو أشجار الغار برياً من تلقاء نفسها، كما كانت منذ مئات السنين، وقد حافظ أهالي الجبال على تقاليد معينة في طريقة قطاف الغار، نجحت في الحفاظ على وجود هذه الشجرة وحمايتها من الانقراض.
كان الغار الذي كلّّل رؤوس الفرسان العائدين من المعارك سبباً لموت شبان أبرياء يسعون خلف رزقهم، لكنه، بين هذا وذاك، كان سبيلاً من سبل العيش في تلك الجبال القاسية، التي لم تبخل على أبنائها يوماً، وحفظت الودّ معهم، من خلال نباتاتها وحيواناتها، زيتونها وغارها وسمّاقها، نباتاتها العِطرية، وأشجارها الكريمة.

أخبار ذات صلة.

هزات عنيفة تلاحق اتفاق غزة
الشرق الأوسط
منذ 13 دقيقة