تم إلغاء العيد
عربي
منذ 4 أيام
مشاركة
لم يُمثّل العيدُ الوطنيُّ في جوهره يومَ عطلةٍ فقط، بل موعداً تتأمّل فيه الأممُ صورتَها في مرآةِ التاريخ: كم شاخت، وكم رمّمت من ملامحها في وجهِ الزمن. فهو اليوم الذي تستعيد فيه الشعوب سردها الخاص للحكايات، وتختبر فيه قدرتها على تحويل الذاكرة إلى هوية. فالأعياد الوطنية ليست احتفالاتٍ عابرة، بل طقسٌ جماعيٌّ يُعيد ربط الأفراد بعضهم ببعض وبالمكان الذي يجمعهم، مانحاً إياهم شعور الانتماء الذي يتجاوز اختلافاتهم العابرة. في ذلك اليوم، تنطق الدولة بلغتها العاطفية، وتقدّم نفسها لا عبر القوانين أو البيانات، بل عبر الإيقاع الجمعي للفرح والاعتزاز. إنه اليوم الذي تتّحد فيه الذاكرة الرسمية والذاكرة الشعبية في روايةٍ واحدة، مهما كانت مضطربة أو ناقصة، وتُعاد فيه كتابة العلاقة بين المواطن والوطن بلغةٍ من الرموز والأغاني والشعارات التي تُنقش في الوجدان أكثر مما تُكتب في الوثائق. غير أنّ العيد الوطني، ككل طقسٍ رمزي، يحمل في طيّاته سؤالاً آخر: من الذي يحدّد ما يُحتفل به، وما يُترك للنسيان؟ إنّه اختبارٌ دقيق لذاكرة الأمم، بين ما تُكرّمه وما تتجاوزه، بين التمجيد والمراجعة، بين الماضي الذي نحتفل به والمستقبل الذي نريد أن نصنعه. فحين تُلغي دولةٌ عيداً من أعيادها، فإنها لا تُسقط يوماً من الروزنامة فقط، بل تعيد صياغة ذاكرتها الوطنية التي لم تتصدّر تاريخنا بريئةً من الدلالات، إذ لطالما جُدّلت برواية السلطة وحدّدت برفقتها ما ينبغي أن يُتذكّر وما يُترك للنسيان. في القرن العشرين، شهدت دول كثيرة تحوّلاتٍ مشابهة. بعد فرانكو، ألغت إسبانيا عيد النصر الذي كان يحتفل بالانتصار الممجّد للدكتاتور بعد حربٍ أهليةٍ طاحنة، لتفتح الباب أمام مصالحةٍ وطنيةٍ خاليةٍ من الشعارات. والبرتغال بدّلت "يوم العِرق" ذي الطابع الإمبراطوري بـ"يوم الحرية" بعد ثورة القرنفل. وفي جنوب أفريقيا، حُوِّل "يوم العهد" الذي كان يمجّد انتصار المستوطنين البيض إلى "يوم المصالحة" بعد سقوط الأبارتهايد، في محاولةٍ لتوحيد الذاكرة النازفة. وفي العالم العربي أيضاً، غيّرت ليبيا وتونس رموزها الزمنية بعد سقوط معمّر القذافي وبن علي، حين أُلغيت تواريخ الانقلابات لصالح أيام الثورة. لهذا، لا يبدو إلغاء الأعياد حدثاً فريداً في الزمن السوري، بل ممارسةً شائعة في لحظات التحوّل السياسي. ويمكن قراءة قرار إلغاء ذكرى حرب تشرين "التحريرية" من التقويم الرسمي في هذا الإطار، بوصفه خطوةً لإعادة ترتيب الرموز السياسية. فحرب تشرين، على امتداد خمسة عقود، لم تكن مجرد معركةٍ عسكرية، بل جزءاً من جهاز الشرعية الذي استخدمه النظام السابق لترسيخ صورته حارساً للوطن. ومع سقوط تلك المنظومة، باتت الرموز المرتبطة بها عبئاً على الدولة الجديدة التي تسعى إلى تأسيس مقولاتها الخاصة. من منظورٍ سوسيولوجي، يمثّل القرار محاولةً لتفكيك "الزمن الرسمي" الذي صنعه النظام القديم، حيث عكس التقويم نفسه هرمية السلطة ومناسباتها. وتغيير هذا التقويم يعني إعادة ضبط العلاقة بين الدولة والمجتمع، وبين الذاكرة السياسية والذاكرة المدنية. وعلى المستوى الرمزي، يمكن فهم الإلغاء كوقفٍ لتكرار خطاب البطولة العسكرية الذي سيطر على المجال العام لعقود؛ فالحرب في الذاكرة الرسمية كانت تُستحضَر كل عام لتثبيت صورةٍ واحدة عن الوطن والانتصار. إعادة الحدث إلى مكانه في التاريخ شكلٌ من أشكال إعادة التوازن بين التذكّر والنقد، بين الذاكرة والواقع. وفي هذا السياق، لا يمكن إغفال البعد البراغماتي أيضاً؛ فدولٌ كثيرة خارجة من النزاعات تميل إلى تقليص عدد الأعياد ذات الحمولة السياسية أو الانقسامية، سواء لتخفيف الأعباء الإدارية أو لتجنّب استدعاء انقساماتٍ رمزية أثقلت اللحظة السورية الراهنة.

أخبار ذات صلة.

( نوافذ يمنية) محرك بحث إخباري لا يتحمل أي مسؤولية قانونية عن المواد المنشورة فيه لأنها لا تعبر عن رأي الموقع..

جميع الحقوق محفوظة 2025 © نوافذ يمنية