
عربي
يمكن الحِجاج بأن الحياة السياسية السورية، منذ نهاية العهد العثماني، ترنّحت في حالة النوسان السياسي: كثير من الحرية والديمقراطية وصلت حدّ الفوضى السياسية، وكثير من الاستبداد وصل إلى حدّ الجفاف السياسي. شكّل تاريخ البرلمان نموذجاً صارخاً لهذه الحالة: تجربة ديمقراطية، سواء في مرحلة الاستعمار الفرنسي أو الاستقلال، ثم موت سريري مع استحكام "البعث".
تشهد سورية عودة شكلية للحياة البرلمانية تحت عنوان مُضمر "ظروف المرحلة التاريخية" التي تمرّ بها سورية، وإذا كانت المرحلة الأولى (الاستعمار والاستقلال) قد اتّصفت بكثير من الحرّية، وإذا كانت المرحلة الثانية (مرحلة البعث والأسدَين) قد اتّصفت بكثير من الأمن معياراً للحياة السياسية، فإنّ المرحلة الحالية جمعت بين الحرية والأمن معاً، لكن بطريقة مشوهة، يُخشى أن تنتهي الأمور إلى فقدان الاثنين معاً: لا حرية سياسية حقيقية ولا أمن واستقرار حقيقيَين.
قاطعت مدن سورية عدّة انتخابات عام 1926، ولذلك جاءت حكومة أحمد نامي المدعوم فرنسياً حكومة باهتة وغير فعالة
الولادة الديمقراطية
مع دخول القوات العربية بقيادة الأمير فيصل بن الحسين إلى سورية، عقب انتهاء الحكم العثماني عام 1918، شهدت البلاد أول تجربة ديمقراطية. وكان من الاستحالة آنذاك إجراء انتخابات برلمانية يقترع فيها الشعب كاملاً، وذلك لسببَين رئيسيَين: الأول الاضطرابات الناجمة عن الانسحاب العثماني، وغياب أي خبرة سابقة في الانتخابات، والثاني ضرورة الإسراع في تشكيل برلمان يمثل الشعب من أجل لقاء لجنة كينغ ـ كراين (لجنة تحقيق عيّنها الرئيس الأميركي وودرو ويلسون أثناء انعقاد مؤتمر الصلح في باريس عام 1919 للوقوف على آراء أبناء سورية وفلسطين في مستقبل بلادهم).
في 19 يونيو/ حزيران 1919 انعقدت أول سلطة تشريعية في سورية، وهي المؤتمر السوري العام، المكون من 85 عضواً. أهم نتاجاته كانت وضع مشروع دستور جعل من سورية دولة ملكية دستورية مع نظام نيابي، وحكومة مسؤولة أمام المجلس النيابي. في 7 مارس/ آذار 1920 أعلن استقلال سورية وتتويج فيصل بن الحسين ملكاً عليها، غير أن هذه الدولة الوليدة سرعان ما قتلها الاستعمار الفرنسي. وتميّزت مرحلة الأمير فيصل بين عامَي 1918 ـ 1920، بدخول الشعب السوري أول مرة الحيّز العام السياسي، فاحتلت القضايا الوطنية والسياسية حيزاً مهماً في تفكير السوريين.
برلمان في ظلّ الاحتلال
مزجت فرنسا في سورية بين سياستَين: تقاليد استعمارية فرنسية تقوم على الهيمنة السياسية المباشرة، وتقاليد إنكليزية تحكم بموجبها بريطانيا عبر نخب سياسية منتخبة. لم يكن هذا المزج نتاجاً لفهم فرنسي للتركيبة الاجتماعية السورية فحسب، بل كان أيضا نتاجاً لأحكام صكّ الانتداب الممنوح لفرنسا من عصبة الأمم بوضع دستور سوري بالاتفاق مع السكان خلال ثلاث سنوات.
بناءً عليه؛ وبعد التواصل مع النخب السورية، دعا المندوب السامي الفرنسي هنري دي جوفنيل إلى إجراء الانتخابات في سورية في 8 فبراير/ شباط 1926 باستثناء منطقة دمشق التي أُعلنت فيها الأحكام العرفية. ولكن، بناء على طلب القادة الوطنيين (ربطوا الموافقة على إجراء انتخابات نيابية بوعد فرنسي بالاستقلال)، قاطعت مدن سورية عدّة انتخابات عام 1926، ولذلك جاءت حكومة أحمد نامي المدعوم فرنسياً حكومة باهتة وغير فعالة.
في 1928، وفي محاولة لضمان وصول نخب سياسة موالية لفرنسا، عمد المندوب السامي الفرنسي الجديد هنري بونسو إلى إقالة أحمد نامي وتعيين الشيخ تاج الدين الحسيني المعروف بمعاداته الزعماءَ الوطنيين بسبب ميولهم الليبرالية والعلمانية. جرت الانتخابات النيابية كسابقتها وفق مبدأ الجولتَين: شملت الأولى مناطق المدن والنواحي في الريف، في حين شملت الثانية مدينتَي دمشق وحلب والأقضية في الريف، مع نائب واحد لكل ستة آلاف نسمة، وكانت هذه الانتخابات الأولى التي يشارك فيها جميع الناخبين السوريين لاختيار 68 نائباً. تحالفت الكتلة الوطنية والشيخ الحسيني، على ما بينهما من نفور، في الجولة الأولى. ولكن بسبب اتهامات بتلاعب الشرطة في صناديق الاقتراع لصالح المرشحين المدعومين من الحسيني وفرنسا، قرّرت الكتلة الوطنية التقدّم بلائحة مستقلة في الجولة الثانية، لكنها ضمت الشيخ تاج نفسه أملاً باسترضائه وعزله عن حلفائه.
فازت الكتلة الوطنية بـ 22 مقعداً من أصل مقاعد الجمعية العمومية الـ70، ومن المفارقات التاريخية أن نتائج الانتخابات جاءت مؤاتية للوطنيين في المدن وللمعتدلين في الريف. ويمكن تفسير ذلك من جهة بأنّ الوجهاء والنخب الإقطاعية ذات التفكير التقليدي المحافظ والمتحالفة دائماً مع السلطات القائمة، كانت ذات تأثير قوي في الأرياف، ومن جهة ثانية حالة الاستعمار الذي جعلت النخب المدينية أكثر تطرّفاً من الناحية السياسية في مطالبها الاستقلالية، وكما سنلاحظ في مرحلة "البعث"، أي بعد القضاء على الإقطاع، انقلبت المعادلة، فاتجه الريف نحو اليسار واليسار المتشدّد، فيما اتجهت المدن نحو الاعتدال.
وافق البرلمان في قراءة أولى على نص الدستور الأول للجمهورية السورية، الأمر الذي أعاد النقاش الحاد بين النخب السورية حول شكل نظام الدولة: ملَكي أم جمهوري. ... وجاء الدستور كما قال نشوان الأتاسي انعكاساً للنخبوية الديمقراطية للكتلة الوطنية، وكان أكثر ما أرضى الفرنسيين إعادة تأكيد المساواة بين جميع أفراد الطوائف الدينية كافة، مع حرية ممارسة الشعائر الدينية والمساواة بن مدارس الطوائف، باستثناء المادّة التي أوجبت أن يكون رئيس الجمهورية مسلماً.
جاءت انتخابات 1931 ـ 1932 (الجولتان، الأولى 1931، الثانية 1932) تتويجاً للخلاف حول شكل الدولة: تزعم رضا الركابي التيار المنادي بالملَكية، بينما تزعمت الكتلة الوطنية النظام الجمهوري. وعلى الرغم من أنّ الانتخابات شابتها مخالفات قانونية كبيرة (ترهيب الناخبين المؤيدين للوطنيين، وصناديق الاقتراع المحشوة بأصوات المتعاونين مع فرنسا) كما ذكر كريم الأتاسي في كتابه "سوريا: قوة الفكرة"، فإنّ نتائجها جاءت لصالح الكتلة الوطنية في هذا المضمار.
حصلت الكتلة الوطنية على 17 مقعداً، بتراجع خمسة مقاعد عن انتخابات عام 1928، لكن تأثيرهم داخل البرلمان ظلّ قوياً وفاعلاً. ... انتخب المجلس في جلسته الأولى صبحي بركات رئيساً للبرلمان، وهو أحد الشخصيات البارزة من أنطاكية، وأحد المقربين من فرنسا، ثم باشر المجلس بعد أيام عدّة عملية انتخاب أول رئيس للجمهورية السورية، ونال هذا المنصب الدمشقي محمد علي العابد. كان عام 1936 موعداً لحدثين هامين في سورية: الإضراب الكبير والانتخابات النيابية.
اندلع الإضراب في 22 يناير/ كانون الثاني 1936 على إثر رفع تعرفة الكهرباء، ما أدّى إلى احتجاجات شعبية، سرعان ما تحولت إلى مظاهرات سياسية تطالب باستقلال سورية. من أبرز نتائج الإضراب الذي دام 60 يوماً وشمل كل الأراضي السورية، إجبار فرنسا على التفاوض حول اتفاقية الاستقلال، الأمر الذي أدّى إلى توحيد الأراضي السورية وإعادة تشكيل الحكومة. وفي 14 نوفمبر/ تشرين الثاني من العام نفسه، جرت الجولة الأولى من الانتخابات التشريعية، فيما جرت الجولة الثانية في 30 الشهر نفسه، وحصلت فيها الكتلة الوطنية على أغلبية ساحقة أدّت إلى انتخاب هاشم الأتاسي رئيساً للجمهورية.
بسبب ظروف الحرب العالمية الثانية، تعطل إجراء انتخابات برلمانية في موعدها، فجرت عام 1943، وهي الانتخابات الرابعة من نوعها في سورية، والأولى بالنسبة للاذقيّة (16 مقعداً) والسويداء (خمسة مقاعد)، والأخيرة بالنسبة إلى لواء إسكندرون، والأخيرة في عهد الانتداب الفرنسي، والأخيرة أيضاً بنظام الجولتَين، وكما في الانتخابات السابقة، حصلت الكتلة الوطنية على أغلبية مقاعد البرلمان المكون هذه المرة من 82 مقعداً، وسط اهتمام وسائل إعلام عربية ودولية.
ما بعد الاستقلال
في 16 إبريل/ نيسان 1946، خرج آخر جندي فرنسي من سورية، لتتشكّل على الفور حكومة برئاسة سعد الله الجابري (1893 ـ 1947)، كان أحد أهم منجزاتها إصدار قانون الانتخابات. طرح موضوع تعديل النظام الانتخابي على مستوى القوى السياسية وعلى المستوى الشعبي، بحيث يجري إلغاء نظام المرحلتَين، لكن القوى الحزبية انقسمت في البرلمان بين مؤيد ومعارض. وبتأثير من الضغط الشعبي، مع اندلاع مظاهرات في دمشق وحمص وحماة وحلب، وساندته نقابات عدّة، أرغم مجلس النواب على إقرار قانون الانتخاب، الذي نصّ على الاقتراع المباشر، وزيادة عدد مقاعد البرلمان، وإلغاء صيغة الحصص الطائفية. أصبح عدد مقاعد البرلمان 131 بموجب مرسوم جمهوري صدر في بداية يونيو/ حزيران 1947، أي قبل نحو شهر من انعقاد الانتخابات البرلمانية في 7 يوليو/ تموز من العام ذاته. حافظ المرسوم على التوزيع الطائفي لمكوّنات المجتمع السوري: 89 مقعداً للسنة، 12 علوياً، ستة أرثوذكس، خمسة دروز، أرمنيان، سرياني أرثوذكس، ثلاثة كاثوليك، أرمني كاثوليك، إسماعيلي، ماروني، سرياني كاثوليك، يهودي، ثلاثة مقاعد للأقليات، وستة للعشائر.
قبل إجراء الانتخابات، تأسّس حزب البعث العربي الاشتراكي في 7 إبريل/ نيسان عام 1947، نتيجة اندماج تجمّعَين سياسيَين، واندمج معهما لعام 1952 حزب ثالث: حركة البعث العربي بقيادة ميشيل عفلق وصلاح البيطار وجلال السيد، البعث العربي بقيادة زكي الأرسوزي، الحزب العربي الاشتراكي بقيادة أكرم الحوراني.
يمكن القول إن دستور 1950 شكل نقلة مهمّة على الصعيد القانوني ـ السياسي في سورية، إذ استفادت لجنة إعداد الدستور من 15 دستوراً أوروبياً وآسيوياً للوصول إلى أرقى المعايير الممكنة
جرت الانتخابات في موعدها وسط عمليات تزوير واسعة، وصادق البرلمان في سبتمبر/ أيلول عليها من دون الالتفات إلى الطعون. فاز حزب الاستقلال السوري (المنبثق عن جمعية العربية الفتاة عام 1919) في الانتخابات بحصوله على 76 مقعداً.
مثل حزب الاستقلال التيار الوطني التقليدي إلى جانب التيارات الرئيسيّة الأخرى في البلاد: التيار القومي (البعث)، التيار الإسلامي (الإخوان المسلمون)، التيار الماركسي (الحزب الشيوعي). اعتبرت هذه الانتخابات مفصلاً تاريخياً هاماً، فهي الأولى التي تجري بعد الاستقلال، والأولى من نوعها التي شهدت هذا الزخم الكبير من الأحزاب والقوى السياسية المتنوعة، والأولى من نوعها التي شارك فيها الشعب بكثافة عالية. بعد هذه الانتخابات، سرعان ما انقسمت الكتلة الوطنية إلى فرعَين: الدمشقي تحت مسمّى الحزب الوطني، والحلبي تحت مسمّى حزب الشعب الذي كان قد أسسه عام 1925 عبد الرحمن الشهبندر. على إثر الهزيمة العسكرية في فلسطين في 1948، حدث توتر بين الجيش والطبقة السياسية الحاكمة، وكان هذا إلى جانب مسائل خلافية داخلية، سبباً في حدوث أول انقلاب عسكري عام 1949 قاده حسني الزعيم، ثم انقلاب سامي الحناوي في أغسطس/ آب من العام نفسه.
حدّدت حكومة الحناوي 15 من نوفمبر/ تشرين الثاني 1949 موعداً لعقد انتخابات برلمانية، وتبنّت الحكومة قانوناً انتخابيّاً جديداً محلّ قانون 1947، ومن ميزات قانون 1949 أنه منح لأول مرة حقّ التصويت للنساء الحاصلات على شهادة التعليم الابتدائي. اعتمد القانون نظام التصويت بالأغلبية من جولتَين: يُنتخب المرشّح إذا حصل على 40% على الأقل من الأصوات، وإذا لم يحصل على هذه النسبة، تُجرى جولة ثانية. أعد البرلمان مسوّدة دستور جديد في إبريل/ نيسان 1949 على أن يجري اعتماده رسمياً في سبتمبر/ أيلول 1950.
حصلت تغيرات في الدستور الجديد، عكست الوضع المضطرب بين السلطتَين، التشريعية (البرلمان) والتنفيذية (الرئيس والحكومة)، فقد منع الدستور رئيس الجمهورية من إصدار المراسيم التشريعية وألزمه بتوقيع مشاريع القوانين التي تصدر من مجلس النواب في غضون سبعة أيام، كما قلّص صلاحيات الرئيس في ما يتعلق بمسألة حلّ البرلمان.
يمكن القول إن دستور 1950 شكل نقلة مهمّة على الصعيد القانوني ـ السياسي في سورية، إذ استفادت لجنة إعداد الدستور من 15 دستوراً أوروبياً وآسيوياً للوصول إلى أرقى المعايير الممكنة كما صرح ناظم القدسي. ورغم ذلك، لم يصل الدستور الجديد إلى الصيغة المثلى، فقد أبقى على صيغة دستور 1930 أنّ الإسلام هو دين رئيس الدولة، وأن الفقه الإسلامي هو المصدر الرئيسي للتشريع، كما أبقى الدستور، رغم السجال العنيف، على سقف الملكية الزراعية مفتوحاً. في المقابل، فشل الدستور الجديد في إقرار مقترح ينص على على وقوف الجيش على الحياد من دون التدخل في الحياة السياسية. وبين إعداد الدستور المؤقت في إبريل/ نيسان 1949 واعتماده في سبتمبر/ أيلول 1950، وقع انقلاب عسكري ثالث بقيادة أديب الشيشكلي الذي لم يحاول في بداية حكمه تغيير النظام السياسي أو القوانين أو الصلاحيات السياسية للسلطات الثلاث، لكنه كان مسكوناً بهاجس الجيش، فعمل على تنحية المؤسسة العسكرية من عالم السياسة، لكن الانقسامات الحادّة بين النخب السياسية حالت دون ذلك. ومع استمرار الخلافات الحادّة بين مختلف القوى السياسية، بما فيه الجيش الذي كان جزءاً رئيساً من الحياة السياسية السورية، أجبرت مجموعة من الضباط الشيشكلي على تقديم استقالته في 25 فبراير/ شباط 1954. لكن قبل سقوط الشيشكلي، جرت انتخابات لمجلس الشعب في أثناء حكمه عام 1953، وسط مقاطعة معظم الأحزاب الكبيرة، خصوصاً الحزبَين الوطني والشعب.
حقق حزب الشيشكلي (حركة التحرّر العربي) 72 مقعداً من أصل 82 مقعداً، وكان سبب هذه النتيجة عدم نزاهة الانتخابات، واعتقال معظم قادة الحزب الوطني. وبسقوط الشيشكلي، شهدت سورية مرحلة الديمقراطية الحقيقية، التي توّجت في انتخابات 1954 البرلمانية. اعتبرت هذه الانتخابات الأكثر نزاهة في تاريخ سورية، فكانت انعكاساً لحالة الازدهار السياسي التي عاشتها سورية منتصف الخمسينيات.
أظهرت نتائج الانتخابات تراجع شعبية الأحزاب السورية الكبرى، كـ"حزب الشعب" (30 مقعداً) و"الحزب الوطني" (19 مقعداً)، مقابل إحراز المستقلين وهم في الغالب من وجهاء المدن والبلدات أو من التجار أو شيوخ العشائر أكبر كتلة مستقلة في تاريخ البرلمانات السورية (60 مقعداً)، والأحزاب اليسارية، كحزب البعث (22 مقعداً). وتميّز هذا المجلس بفعالية عالية على المستوى القانوني، فقد أقرّ قوانين إصلاحية نظمت الحياة السياسية والاجتماعية، شملت دعم الحريات المدنية والسياسية، وحرية الصحافة، ودعم العمل النقابي. وفي 1958 اتحدت سورية ومصر تحت اسم الجمهورية العربية المتحدة، وخلال ثلاثة أعوام، هي عمر الجمهورية، تعطّلت السياسة بإلغاء الأحزاب والانتخابات. وبعد انهيار الوحدة مع مصر عام 1961، سيطر الانفصاليون على الحكم.
عاد مجلس الشعب إلى الحياة السياسية، ولكن ليس بالزخم السابق، فقد أجريت انتخابات لمجلس الشعب في ديسمبر من العام ذاته، حصل فيها حزب "الشعب" على 33 مقعداً، و"الحزب الوطني" على 21 مقعداً، و"البعث على 20 مقعداً، والإخوان المسلمين على 10 مقاعد، بينما لم يحصل الحزبان، الشيوعي والقومي الاجتماعي على أي مقعد. تم رفع عدد مقاعد المجلس النيابي من 140 إلى 172، وبلغت نسبة المشاركة فيها 84%، وهي أعلى نسبة من المشاركة في تاريخ الانتخابات السورية.
بدأ بعض النواب في البرلمان السوري حملة معارضة ضد سلطة العسكر، مطالبين بإنهاء هيمنة الجيش على السياسة، وواجه الجيش حراكاً شعبياً في الشوارع، في وقت استمرّت البلبلة السياسية والانقسامات السياسية ـ السياسية، والسياسية - العسكرية، حتى مارس/ آذار 1963 حين قام "البعث" بانقلاب عسكري، عطّل فيه عمل البرلمان وحكم البلاد بموجب مراسيم عسكرية حتى عام 1971.
في عهد البعث ومع غياب الأحزاب الفاعلة وغياب التمثيل السياسي الحقيقي، أضحى مجلس الشعب ساحة للتنافس على المكانة والنفوذ، بحيث أصبح التملّق والولاء مدخلين للوصول إليه
البرلمان في زمن البعث: احتكار وتصفيق
مع انقلاب حزب البعث العربي الاشتراكي عام 1963 تغير المناخ السياسي جذرياً: انتهت مرحلة التنوع السياسي والأيديولوجي، وانتهت معها ضوابط (وآليات) التنافس المحصورة بين الانتخابات الفعلية والانقلابات العسكرية. ترتب على هذا الوضع نشوء حالة الاستبعاد التام، ليس عن السلطة فحسب، بل أيضا عن مجمل الحياة السياسية.
انتهت مع حافظ الأسد الصراعات الحزبية والسياسية والعسكرية، سواء داخل "البعث" نفسه، أو بين "البعث" والأحزاب الأخرى، وأصدر الأسد في بداية عام 1971 مرسومين بتحديد عدد أعضاء البرلمان بـ173 عضواً، وتسمية أعضاء هذا البرلمان بنفسه. وفي 13 مارس/ آذار 1973 وضع الأسد دستوراً جديداً، حصرت المادة الثامنة منه القيادة والحكم بالبعث.
أعطى الدستور صلاحيات واسعة جدا لرئيس الجمهورية، ونصّ على أن الترشيح لمنصب رئاسة الجمهورية يصدر عن مجلس الشعب بناء على اقتراح القيادة القطرية لحزب البعث.
تألف مجلس الشعب من 250 عضوا، ينقسمون إلى فئتين رئيسيتين: العمّال والفلاحين ويؤلفون 50 على الأقل من مقاعد المجلس، وتضم الثانية باقي فئات الشعب، ويحتفظ حزب البعث مع باقي أحزاب الجبهة بما نسبته تقريباً 85% من المقاعد البرلمانية. أما المستقلون فهم غالباً ما يكونون من رجالات السلطة، وهذا يعني غياب التمثيل السياسي الحقيقي، وبطبيعة الحال، كل ذلك يقودنا إلى غياب التعددية الفعلية. وخلال هذه السنوات، بدءا من يناير/ كانون الثاني 1978 رشّحت القيادة القُطرية للحزب حافظ الأسد لولاية جديدة من سبع سنوات، وتكرّر الأمر نفسه عام 1985، و1991 و1999 بالطريقة نفسها.
لا تخضع الحكومة في سورية للسلطة التشريعية (مجلس الشعب)، الأمر الذي يختزل عمل المجلس إلى مجرّد مراقب خارجي غير قادر على التدخّل إيجابا بإصدار القرارات المطلوبة، ما دام أن هذه القرارات لا تحمل أي إلزام قانوني تجاه الحكومة. وهنا يجد النائب نفسه غير مضطرٍّ للدخول في متاهات عمل الحكومة، لا سيما المتعلقة بالقضايا المهمة. وما دامت الحكومة ليست مسؤولة أمام مجلس الشعب، فمن الطبيعي والمنطقي ألا يمتلك حقّ التصويت أو حجب الثقة عنها، فوظيفته تختزل إلى أخذ العلم بالشيء كما أكّدت المادة 118 من دستور 1973، والتي تُلزم الحكومة عند تأليفها بتقديم بيانٍ عن سياستها وبرامجها إلى المجلس.
ومع غياب الأحزاب الفاعلة وغياب التمثيل السياسي الحقيقي، أضحى مجلس الشعب ساحة للتنافس على المكانة والنفوذ، بحيث أصبح التملّق والولاء مدخلين للوصول إليه، ثم حدث تحول مهم في مسار المجلس خلال العقدين الماضيين مع دخول رجال أعمال حديثي النعمة معظمهم من صنيعة النظام، والنتيجة أن المجلس لم يعد ساحة للمكانة والنفوذ فحسب، بل أصبح سوقا للبازار السياسي تتم عبره الملاءمة بين رأسي المال الاقتصادي والسياسي.
بقي دستور عام 1973 طوال حكم حافظ الأسد، وظلت آليات الاستفتاء الشعبي وعمل مجلس الشعب كما هي طوال 30 عاما. ... جرت انتخابات مجلس الشعب في عهد بشّار الأسد في موعدها على التوالي عامي 2003 و2007، وكانت نتائجها مثل نتائج الجولات السابقة في عهد الأسد الأب، باستثناء تغيّرات في الشخوص البرلمانية فرضتها طبيعة المرحلة.
تأجلت انتخابات مجلس الشعب المقرّرة عام 2011 بسبب اندلاع الثورة، وجرت في السابع من مايو/ أيار 2012، وهي الأولى بعد الدستور الجديد الذي أجرى تعديلات على دستور 1973، منها: إلغاء المادة الثامنة، أن حزب البعث العربي الاشتراكي هو القائد للدولة والمجتمع، والسماح بتأسيس أحزاب سياسية جديدة، تحديد مدّة ولاية الرئيس بسبع سنوات قابلة للتجديد مرّة واحدة فقط، بدلا من الاستفتاء المفتوح في الدستور السابق. كما تغيّرت آليات الترشّح لمنصب الرئاسة. وكانت هذه التعديلات شكلية، ولم تغيّر من طبيعة النظام السياسي القائم، إذ بقيت الدولة الأمنية البوليسية قائمة في الواقع، بل أصبحت أكثر شراسة في ردة فعل على الثورة، وبقي الأسد يتمتّع بصلاحيات كبيرة جداً.
وعلى هذا الأساس، جرت الانتخابات عامي 2016 و2020، والجديد فيها كان فقدان النظام السوري مناطق جغرافية، وفيها أدخل النظام وجوها جديدة إلى المجلس تطلبتها طبيعة المرحلة، حيث كافأ مجرمي الحرب من قادة المليشيات الذين قاتلوا معه بالسماح لهم بالدخول إلى البرلمان. وأجرى النظام آخر ألاعيبه الانتخابية عام 2024، فجرى اعتماد آلية "الاستئناس الحزبي" أول مرة وسيلة لاختيار مرشّحي الحزب.
لم يختلف مجلس الشعب الحالي، من حيث المضمون والأهداف، عن مجلس الشعب خلال عهد الأسدَين الأب والابن، بمعنى أن طبيعة النظام السياسي وآليات عمل مؤسسات محكومة من السلطة التنفيذية
انتخابات بلا شعب
شهدت سورية في 5 أكتوبر/ تشرين الأول الجاري (2025) ما أطلق عليه اسم انتخابات مجلس الشعب، وجاءت في صيغة تشبه صيغة انتخاب "المؤتمر الوطني العام" عام 1919 في عهد حكومة الأمير فيصل بن الحسين. فبدلاً من تصويت الشعب في صناديق الاقتراع لاختيار ممثليهم، اعتمدت حكومة الرئيس أحمد الشرع نظاماً يقوم على تشكيل لجان ناخبة محلية في كل منطقة، تتولى اختيار هيئة ناخبة (سبعة آلاف شخص) من المحافظات الـ 11، باستثناء السويداء والحسكة والرقّة، ومن هؤلاء يجري انتخاب أعضاء مجلس الشعب.
قلصت السلطة عدد مقاعد مجلس الشعب من 250 مقعداً إلى 210 مقاعد، منهم 140 يجري انتخابهم، والثلث المتبقّي يعين بمرسوم من رئيس الجمهورية. ولكن، إذا كانت الظروف الضاغطة عام 1919 السبب في اعتماد ديمقراطية النخبة، والإسراع في تشكيل "المؤتمر الوطني العام"، فإنّ من شأن الاستعجال في إجراء انتخابات برلمانية حالياً وسط مناخ غير سياسي وعمليات إقصاء فردية وجماعية لمكوّنات اجتماعية مهمّة، أن يؤدّي إلى نتائج عكسية على المستوى الاجتماعي ـ السياسي.
من الواضح، بحسب تصريحات المسؤولين السوريين، أنّ السلطة بحاجة سريعة إلى مجلس شعب حتى يكون غطاءً "ديمقراطياً" إلى حد ما من أجل شرعنة قرارات السلطة التنفيذية المتمثلة في شخص رئيس الجمهورية. وبهذا؛ لم يختلف مجلس الشعب الحالي، من حيث المضمون والأهداف، عن مجلس الشعب خلال عهد الأسدَين الأب والابن، بمعنى أن طبيعة النظام السياسي وآليات عمل مؤسسات محكومة من السلطة التنفيذية، وليس من السلطة التشريعية، كما هو الحال في الديمقراطيات الليبرالية.
ومع ذلك، وحتى تكون لغة هذه المطالعة لغة تاريخية لا تتعالى على الواقع وتحاول ثنيه، ولا تنصاع في المقابل لهذا الواقع القائم، يمكن القول إنّ هذا النمط الغريب من "الانتخابات البرلمانية" (لا يشارك فيها الشعب لا من قريب ولا من بعيد) قد يحقق نتائج ملموسة (أو هكذا يتمنّى كاتب هذه السطور) إذا كان المُراد النهائي للسلطة الوصول إلى نظام سياسي متطور وبمشاركة الجميع في المستقبل القريب، وسن القوانين الكفيلة بإعادة بناء الدولة والمجتمع، أما إذا كان المقصود بهذه الآلية الانتخابية (مدّتها 30 شهراً، وهي طويلة جداً) محاولة شرعنة الواقع السياسي الحالي، فإنّ مجلس الشعب سيبقى كما هو: ديكور سياسي مع اختلاف الشخوص.
