أرونداتي روي والكتابة ضدّ التاريخ
عربي
منذ 4 أيام
مشاركة
في تلك المسافة بين "سقوط النظام" وما سُمّي "انتصار الثورة"، تبرز أهمية كتابات الروائية والناقدة الهندية أرونداتي روي، في تقاطعها مع ما ينتظر الكتّاب السوريين بعد لحظة ما سمّي "النصر"، تلك اللحظة التي اشتبهت على السوريين إلى حدٍّ لم يُعرف فيه من الذي انتصر فعلاً؛ الشعب أم اللغة التي أعادت إنتاج النظام في كلمات واستعاراتٍ جديدة؟ كان السقوط انكشافَ البنية التي استترت خلف الاستبداد عقوداً طويلةً: الكلمات، الرموز، الخطابات التي واصلت عملها بصمت بينما لم تتبدّل سوى الوجوه. من هنا تبدأ الحاجة للكتابة فعلَ تفكيك، واستعادةً للقدرة على إعادة تسمية ما كان محظوراً، بحثاً عن جملةٍ قادرةٍ على احتواء أنقاض الحرب والمعنى معاً. وهذا ما فعلته الكاتبة الهندية، فهي لم تكتب ضدّ النظام السياسي فحسب، بقدر ما فكّكت اللغة التي شرعنته، وضدّ فكرة الثورة التي تُقدَّم بوصفها نهاية للتاريخ. أعمالها تُقدِّم نموذجاً لأدبٍ يشكّك بالتحرّر أكثر ما يحتفل به، ويستدعي الماضي ميداناً مفتوحاً للمساءلة. فكل نظام ينهار يترك وراءه ركامين: ركام الحرب وركام اللغة، والكتابة وحدها قادرة على جمعهما في جملة مفهومة. في سورية، كما في عالم رواية "وزارة السعادة القصوى"، لا يسقط النظام في لحظة، بل يبدأ تفسّخه في اللغة أولاً. أنقاض المدن، لا تقلّ صخباً عن أنقاض الخطاب الذي كان يبرّرها؛ المفردات ذاتها التي سوّغت القصف تُستعمل اليوم لتزيين خطاب الإعمار، واللغة نفسها التي صمتت عن القتل تُستدعى لتتحدّث باسم "الوحدة الوطنية". هنا تُعيدنا الكاتبة إلى جوهر الاستبداد، فسقوط البنى السياسية والعسكرية للنظام، لا يعني سقوط نظام المعنى. والسلطة ليست في القصر الجمهوري، بل في الكلمة التي تنظّف وتلمّع جريمتها. والكتابة هي الفعل الوحيد القادر على تفكيك هذا السحر اللغوي. وكما جعلت أرونداتي روي المقبرة في تلك الرواية فضاءً للحياة، مكاناً يتعايش فيه الموتى مع المنفيّين، سيكون على الكاتب السوري أن يعيد تسمية الخراب، وأن يحوّله من أثر إلى نصّ، من صمتٍ إلى تركيب جديد للمعنى. فجوة ما بعد السقوط ستجعل الكتابة الشكل الأخير من السياسة الممكنة، محاولة لترميم اللغة قبل ترميم الحجر، فالركام الأخطر ليس ما خلّفه القصف، إنه ما تركه النظام في مفرداتنا اليومية، في الجمل التي ما زالت تظنّ نفسها بريئة. من يكتب التاريخ أولاً يربحه، لكن من يكتبه بصدق يخلّده. في سورية ما بعد السقوط، سيتنازع التاريخ خطابان: خطاب المنتصرين الذين يسارعون إلى تدوين روايتهم الرسمية، وخطاب الناجين الذين لم يعد لهم سوى الذاكرة سلاحاً. وكما فعلت روي في رواية "آلهة الأشياء الصغيرة" حين أسندت السرد إلى المهمّشين (امرأة، طفل، منبوذ طبقيًّا)، يجب أن يعاد في الأدب السوري ترتيب من يملك حقّ الكلام، فالرواية الرسمية لا تُلغى إلا حين يتكلم أولئك الذين لا يملكون صوتاً في الأرشيف. التاريخ ليس زمناً متعاقباً بقدر ما هو نصٌّ تتنازعه التأويلات، وكل من يكتب يضع فاصلة جديدة في جملة السلطة. من ربح التاريخ في لحظة النصر لا يضمن الخلود؛ إن أراد الكاتب السوري النجاة من فخّ الأدلجة، فعليه أن يكتب ضدّ التاريخ، لا معه، أن يكشف كيف تحوّل "التحرير" خطاباً آخر للهيمنة، وكيف استبدلت الثورة قاموسها القديم بآخر أكثر حداثةً وانسجاماً مع شروط الضواري المحيطة بسورية. الذاكرة في الأدب ليست استرجاعاً، هي فعل مقاومة ضدّ النسيان السياسي. وفي سورية، لن تكون الذاكرة مجرّد أرشيف للعذابات والمجازر، بقدر ما ستكون ميدان الصراع الجديد على شرعية السلطة: من سيُسمح له بأن يتذكّر؟ ومن سيُجبر على النسيان باسم المصالحة الوطنية؟ لذلك، سيكون على الأدب السوري أن يتحوّل من رثاء إلى مقاومة، من تذكّر المأساة إلى فضح آليات محوها. الثورات تنجح حين تبدأ اللغة في مساءلتها، لا في تمجيدها. وسيبقى الخطر الأكبر أن تتحوّل الثورة إلى أسطورة جديدة تُعيد إنتاج الطغيان في صيغة رمزية؛ وهنا تلتقي التجربة السورية بما أنجزته أرونداتي في "وزارة السعادة القصوى"، حين كشفت أن اللغة الثورية نفسها قد تنقلب إلى خطاب إقصاء عندما تحتكر الحقيقة. في عالم أرونداتي، لا توجد ثورة خالصة، بقدر ما توجد تعددية أصوات تتنازع المعنى، ومساءلة دائمة لما تُنتجه الذات من يقين. الثورة، في منظورها ليست ذروة تاريخية بقدر ما هي نصٌّ مفتوحٌ على الشكّ، والتحدّي أمام الكتّاب السوريين أن يُخضعوا لغتهم ذاتها للمساءلة. لأن التمجيد، حتى لو كان صادقاً، يُجمّد التاريخ ويحوّله إلى تمثال مقدّس، بينما المساءلة تُبقيه حيّاً ومفتوحاً على احتمالات جديدة للحرية. كما تفكّك أرونداتي خطاب "الهند الديمقراطية"، سيكون على الكاتب السوري أن يُعرّي الخطاب الثوري "القديم والجديد" من وهم الطهارة، وأن يكتب لإنقاذ الثورة من نفسها بدلاً من تمجيدها، لأن اللغة التي لا تُسائِل ذاتها تُعيد، ولو من دون قصد، بناء السجن الذي ظنّت أنها هدمته.

أخبار ذات صلة.

( نوافذ يمنية) محرك بحث إخباري لا يتحمل أي مسؤولية قانونية عن المواد المنشورة فيه لأنها لا تعبر عن رأي الموقع..

جميع الحقوق محفوظة 2025 © نوافذ يمنية