
عربي
لا يخصّ الإسلام السياسي أصحابه وحدهم، بل يخصّنا جميعاً، عرباً مسلمين وغير مسلمين، فهو أحد استجاباتنا لعصر لم نصنعه، وأبى صانعوه إلا أن يجعلونا أنصاف بشر، فأبيْنا بدورنا وبمواريثنا الحضارية إلا أن نقاوم، وهذا حقّنا وواجبنا. ولكن كيف؟... إجابة هذا السؤال استغرقت قرناً ونصف قرن، وما زالت، وكان الإسلام السياسي أحد الإجابات التي يتصوّر أصحابها أنهم يعودون بها إلى منابع القوة في شخصيتنا الحضارية، فيما يرى المختلفون معهم أن الغضب الإسلامي (بتعبير رفعت سيّد أحمد) هو التوصيف الأدق لهذه الإجابات.
موطن الشاهد، بعد مقدّمة طويلة ولازمة، أن الإسلاميين منّا وإن كانوا خصومنا، وهم أحد تناقضاتنا الداخلية التي تستوجب حلّاً، يحجزنا عنه (جميعاً) أن حلولنا (كلّها) مجرّد ردّات فعل، أو استعارات (نتوهم أنّها تفاعلات). وحين حاولنا أن نجد "أنفسنا" في ثورات الربيع العربي كان ما كان، أمسكنا بالطريق، فظهر قطّاع الطرق.
أحد انعكاسات عالم ما بعد الثورات والثورات المضادّة وممارسات الإسلاميين في الحكم، ثمّ انتزاعه منهم وشيطنتهم، هو انقلاب قطاع من أفرادهم على أفكاره ورفاقه، نضجاً أو هرباً من مصير الضعفاء إلى الانحياز للأقوى، أمّا الناضجون فيتجاوزون، وتتحوّل تجاربهم أرصدةً في بنوك المستقبل، وأمّا الهاربون فيحرّكهم الذعر أينما ذهبوا، ومن ثمّ لا يتغيّرون. فالمشكلة مع الإسلاميين مشكلة "منهج" لا مُنتَج، كيف يفكّر الغاضب، لا ماذا ينتج، فالمنتج يتغيّر (جوهرياً) حين تتغيّر "الماكينة" لا الخامات، والماكينة التي تنتج جلباباً من القطن، لن تنتج قميصاً وبنطلوناً إذا تغيّر القطن إلى "جينز"، بل جلباباً من الجينز، فتزداد المشكلة بازدياد عبثيتها. من هنا يصبح صاحبنا الإكس إسلامي الهارب خوفاً لا نضجاً "زبوناً"، وقد أبدعت العامية المصرية في تحويل دلالة كلمة زبون إلى التعبير عن حالة السذاجة المفرطة التي يتصوّر أصحابها أنهم "أسياد العارفين"، فإذا بهم "صيدة" لمن أراد أن يصطاد، ثمّ "طُعم" لصيد آخرين.
يُغيّر الإسلامي الهارب خامات أفكاره من دون أن يغيّر منهجه، فيتحوّل الاستعلاء الديني إلى لا ديني، ويظلّ استعلاءً، ويتحوّل الغضب الإسلامي إلى لا إسلامي ويظلّ غضباً، وكما انتقلت معادلة "الفسطاطَين" من العقدي إلى الاجتماعي في تجربته السابقة، تنتقل معه من إسلامي (مسلم في المتخيّل الأيديولوجي) وعلماني (كافر في المتخيّل الأيديولوجي) إلى وطني في مواجهة عميل ومموّل و"مركوب من الإسلاميين".
ومع ازدياد الفاجعة التي يعاني منها الهارب أبداً، لا سيّما إذا كان "فارغاً"، ليس لديه ما يقدّمه لمجتمعه الجديد، يتحوّل بالتعريف إلى "ضدّ إسلامي"، مهمّته نزع الإنسانية عن الإسلاميين باعتبارهم السبب الوحيد لكل مشكلاتنا (مشكلاته الشخصية جداً)، ومن ثمّ زوالهم هو الحلّ الوحيد لها. وهي السلعة التي لا تشتريها في أيامنا سوى أنظمة الوكالة الاستعمارية التي تحكمنا، ومهما حاول الضدّ إسلامي "الرومانسي" أن يجد لنفسه مكاناً مناهضاً للسلطة والإسلاميين معاً، فإن "ميراث الغضب" يحول بينه وبين أي اختيار، فشرط الاختيار الحرية، وشرطها المسؤولية، وشرطها النضج، وصاحبنا غاضبٌ أبداً، فمن أين؟ وإلى أين؟ إلى الانحياز للأقوى، فذلك أكثر أمناً، كما أنه سبيل "فشّ الغلّ".
من هنا، يمكننا فهم خطابات قطاع من الصهاينة العرب (الإسلاميين سابقاً)، الذين يفضّلون المحتلّ على مقاومته إذا كانت "إسلامية"، وهم مع الأنظمة الاستبدادية، ومع المستعمر، ومع إسرائيل، ومع الشيطان نفسه إذا كان ضدّ الإسلاميين، فهم ليسوا أصحاب مصلحة بقدر ما هم أصحاب ثارات، كما أنهم ليسوا خصوماً أيديولوجيّين للإسلاميين "بجد"، يمكن مع التجارب أن يصلوا إلى موقفٍ مركّب ومسؤول، يدعم الإسلاميين في ميادين المقاومة ويختلف معهم في ميادين السياسة والفكر، ومن ثمّ فاتهام الـ"ضدّ إسلامي" بالتصهين قد يكون حقيقياً، لكنه ليس حلّاً، كما أن مناقشته وفق منطق الأسوياء لن يكون مجدياً، فـ"الأخ" الغاضب الهارب من مجتمعه، ما زال غاضباً وما زال هارباً، والحلّ؟ في إنقاذ غيره منه، أمّا إنقاذه فمهمّته وحده.
