
عربي
يعاني العائدون إلى مدينة غزة من صعوبات لإيجاد مأوى مؤقت أو خيمة داخل مراكز الإيواء القائمة بسبب تكدس مختلف الأماكن، كما يعانون من نقص حاد في مياه الشرب، وانعدام مختلف الخدمات.
يجعل واقع الدمار في قطاع غزة إيجاد مأوى أحد أكبر هموم العائلات الفلسطينية، خصوصاً في مدينة غزة التي تعرضت للقدر الأكبر من التدمير الإسرائيلي، إذ عادت مئات العائلات لتجد المنازل والأحياء مدمرة، مع انعدام مقومات الحياة فيها، ما يضعهم أمام واقع كارثي.
وإضافة إلى صعوبة الحصول على مأوى، يواجه العائدون الذين يقول الدفاع المدني إنهم نحو نصف مليون فلسطيني، صعوبات في الحصول على المياه والطعام، ما يؤشر إلى أن المعاناة قد تستمر لفترة أطول بانتظار إصلاح خطوط المياه المدمرة، وتعبيد الطرق، وفتح المخابز.
يتجول الفلسطيني محمد هاني في منطقة الصحابة، محاولاً البحث عن شقة للإيجار في العمارات السكنية القائمة من دون جدوى، بينما يتنقل الآلاف بين المدارس التي تحولت إلى مراكز إيواء محاولين البحث عن فصول دراسية فارغة، والبعض الآخر يضع علامات في الشوارع وفي محيط المدارس محاولاً حجز مكان لنصب خيمة لعائلته، قبل أن حجز الأماكن مع استمرار عودة أفواج أخرى من النازحين من جنوبي القطاع.
نزح هاني إلى الجنوب قبل نحو أسبوعين فقط، وكلفته الرحلة نحو ثلاثة آلاف دولار، من أجرة الشاحنة، وأجرة استئجار أرض تؤوي عائلته، وفور إقرار وقف إطلاق النار، عاد مجدداً إلى مدينة غزة، ليبدأ رحلة البحث عن مأوى. ويقول لـ"العربي الجديد": "كنا نستأجر بيتاً في حي الصبرة منذ خمسة عشر عاماً، وعندما عدنا، توجهنا إلى البيت، فطلب منا صاحبه الانتظار لحين اتضاح قيمة الإيجارات، ما جعلنا مضطرون للبحث عن مأوى مؤقت".
كان الفلسطيني إبراهيم أبو ليلة يسكن بمنطقة "الغفري" في شارع الجلاء، وتعرض بيته للتدمير الكلي، وهو يتجول على مدار الأيام الماضية بين المدارس ومخيمات الإيواء بمدينة غزة، بحثاً عن فصل فارغ ليؤوي عائلته، لكنه لم يجد، فكل الأماكن امتلأت بعد وقت قصير من فتحها.
يواجه العائدون إلى مدينة غزة صعوبات في توفير المياه والطعام، ويتعجل الأهالي إصلاح خطوط المياه وتعبيد الطرق وفتح المخابز
يقف أبو ليلة أمام منزله المدمر، يتأمله مع بيوت الجيران التي أصابها نفس الدمار، إذ لم يبق في الحارة سوى بيت واحد قائم، وهو متضرر إلى حد كبير، أما بقية البيوت في المربع السكني فكلها دمرت كلياً بفعل تفجير "عربات مفخخة" عديدة بالمنطقة. يحكي أبو ليلة لـ "العربي الجديد": "الأوضاع تفوق الوصف، وكأن زلزالاً قوياً ضرب المنطقة، والاحتلال دمر كل المنازل متعمداً. كنت أسكن في بيتنا المكون من ثلاث طبقات مع ثلاثة من إخوتي، وجميعنا لدينا أطفال، والآن نحن مشردون، وبعدما كان لدي خمس غرف، أبحث الآن عن غرفة واحدة تؤوينا ولا أجد. نعيش في شتات، ولا تتوفر المياه ولا الكهرباء، ونعتمد على خزان مياه صغير لتوفير مياه الشرب، وهذه مشكلة أخرى تواجه غالبية العائدين. أعمل في بلدية غزة، وعملت بلجان الطوارئ، والإمكانات المتاحة محدودة، ونحتاج إلى وقت لإعادة تأهيل آبار المياه وشبكات الصرف الصحي".
يضيف: "تواجه معظم أحياء مدينة غزة أزمة في توفير المياه، والبحث عن مأوى في مدينة معظم أحيائها مدمرة أمر غاية في الصعوبة. المدارس التي تفتح أبوابها تمتلئ خلال ساعة واحدة، والإيجارات المتوفرة صعبة على شخص مثلي يحصل على راتب ألف شيكل شهرياً. نعيش في بيت أصحابه لا يزالون نازحين في جنوب القطاع، وعندما يعودون سأكون أنا وأسرتي في الشارع، أو سنعيش فوق ركام بيتنا المدمر إلى حين إيجاد مأوى".
بدوره، دمر الاحتلال منزل حسام علي، وأمضى عدة أيام يتنقل بين البيوت المتاحة للإيجار، لكنه لم يجد شقة فارغة في أي منها، باستثناء عمارة واحدة وجد فيها شقتين فارغتين، وطلب صاحبها ألف دولار إيجاراً شهرياً، ما كان صادماً له، وجعله يقرر إصلاح غرفة في بيت عائلته المدمر لتؤويه مع أسرته.
ويقول علي لـ "العربي الجديد": "تجولت على عدة أحياء، من بينها تل الهوى، ومنطقة الرمال، وشارع الصحابة، وهي المناطق التي شهدت دماراً أقل، ولم أجد شقة فارغة، فجميع الشقق مستأجرة من قبل الاجتياح الأخير، وأصحاب الشقق المتاحة يطلبون أسعاراً خيالية تقدر بأضعاف السعر المتعارف عليه. فقدان المأوى يجعلك تعرف معنى التشرد، وهذه أكبر حسرة عشتها خلال الحرب".
كان الفلسطيني محمد الدلو وإخوته الخمسة يسكنون منزلاً يتكون من عدة طبقات، لكنه تهاوى كلياً نتيجة قصف الاحتلال، ما أدى لتفرق العائلة وتشتتها، إذ يعيش اثنان من الإخواة في جنوبي القطاع، ومن غير الممكن عودتهما إلى مدينة غزة، أما هو فحصل على نصف صف مدرسي، وحصل شقيقه الآخر على خيمة في أحد مراكز الإيواء، وكل ذلك بشق الأنفس.
يجلس الدلو فوق ركام منزله، يتأمل بحسرة وقهر المنزل المدمر، ولم تستطع العائلة التي لم تجرب النزوح سابقاً أخذ أية أمتعة أو مستلزمات، وتتزايد حسرته نتيجة تدمير مكتبة والده التي كانت تضم نحو عشرة آلاف كتاب، وهي متناثرة حالياً بين الركام.
في مشهد آخر، ينهمك الخمسيني عماد رضوان "أبو حمزة" مع أولاده في إزالة الركام من غرف الطابق الأول بمنزله، محاولاً تهيئة مكان للعيش بعد قصف الطوابق العلوية من المنزل المكون من أربعة طوابق، والذي لم يتبق منه سوى بعض غرف الطابق الأول. بينما يقوم ونجله الأكبر بتعبئة الركام في دلاء، وإخراجها من المنزل.
ورغم صعوبة الوصول إلى المنزل نتيجة الركام الكبير المتراكم أمامه، وتهدم جميع بيوت الجيران في المحيط، يحاول أبو حمزة إعادة الحياة إلى المنزل شبه الميت، بينما يطل بعينين دامعتين من نافذة مدمرة على ركام بيوت مدمرة، ويعدد أسماء أصحابها الذين جمعته بهم ذكريات طويلة في المنطقة التي لم تعد صالحة للحياة نتيجة تدمير معظم البيوت.
يقول رضوان لـ "العربي الجديد" بينما يرتاح قليلاً بعد يوم شاق من محاولات تهيئة المنزل: "لدي خمسة أبناء كلهم متزوجون، كما أرعى والدي المسنين، ولم يتبق لنا سوى غرفتين من منزلنا الكبير، وقد قررنا العودة إليه من أجل ترك المجال لمن لم يجدوا مأوى. مصيبتنا كبيرة، خاصة أن المنطقة دمرت بأحزمة نارية بعد توقيع اتفاق وقف إطلاق النار بساعات".
في جانب آخر من المدينة، كان توفيق الغولة وأشقاؤه وأبناؤهم يقومون بتهيئة أرض مقابلة لمنزلهم، ويحاولون نصب خيمة فيها. ويقول لـ "العربي الجديد": "نعمل على إنشاء عدة خيام لأن فصل الشتاء قادم، والحياة في الشارع ستكون صعبة، فكل منا كان لديه حياة، لكننا عدنا إلى الصفر، إذ لم نعد نملك بيوتاً ولا طعاماً ولا مياها، ولا تتوفر أية خدمات".
يتأمل الغولة العمارة السكنية المهدمة التي كانت في السابق تضج بالحياة، ويضيف: "كانت عمارتنا مكونة من ستة طوابق، ويعيش فيها 25 أسرة. ما تراه الآن ليس حياة، إذ لا توجد حياة بلا منزل، فنحن نعيش في مجتمع، ويجب أن يكون لديك بيت خاص".
على مد البصر، يسير المئات في طابور طويل عائدين من مناطق وبلدات شمالي القطاع، بعد زيارات قصيرة صادمة للمناطق التي أعاد الاحتلال مسحها وتسويتها بالأرض. كان سامي سرور قادماً من مخيم جباليا، حاملاً "حراماً شتوياً"، وهو كل ما استطاع الخروج به من منزله المدمر، وهو عائد لاستكمال النزوح في مدينة خانيونس جنوبي القطاع، بعدما لم يجد أي مكان يؤويه، أو مقومات حياة في الشمال، على أمل أن يعود لنصب خيمة عندما تتهيأ البيئة للعودة.
بدورها، تحمل منى نبهان طفلها الرضيع عائدة من منطقة جباليا البلد، وتحكي لـ "العربي الجديد" بملامح مكسورة، عما شاهدته خلال رحلة البحث عن مأوى في بلدتها قائلة: "جباليا مدمرة بالكامل، ولم أجد بيتاً واحداً سليماً. لا توجد أية مظاهر للحياة، فالبيوت صارت ركاماً. أملت إيجاد غرفة تنهي كابوس النزوح، لكني لم أجد، وها نحن نعود إلى الخيمة التي نصبناها مؤقتاً في منطقة الميناء، والتي يبدو أنها ستصبح مأوى لفترة طويلة".
قرب مفرق "الغفري" في وسط شارع الجلاء، كان الشاب بشار معروف قادماً من حي الصفطاوي في شمال مدينة غزة، حاملاً قربة مياه فارغة، إذ يبحث عما يروي ظمأه، ويقول لـ "العربي الجديد": "مياه الشرب غير متوفرة، لكني أحاول تهيئة قطعة أرض لاستقبال عائلتي القادمة من جنوب القطاع. المنطقة مدمرة بالكامل، وكنا قبل التوغل الإسرائيلي الأخير نعيش في نادي "جباليا النزلة" الذي تحول إلى مركز إيواء، والآن نبحث عن بقعة أرض مستوية لنصب خيمة".
