
عربي
لكي تصل إليها عليك أن تدخل في متاهة من الشوارع الرئيسة ثمّ الفرعية، حتّى لو استخدمت المرشد الإلكتروني سوف ينقطع بك صوت المذيعة؛ لأنّك تكون قد وصلت إلى مكانٍ غير مربوط بدليل الخريطة المسموعة. عليك بعد ذلك أن تعتمد على سؤال من تصادفهم من المارّة أو الأطفال عن مكان "مكتبة قرّاء المعرفة"، في قرية غلا بولاية بوشر في أطراف العاصمة مسقط. مكتبة لا تبيع سوى الكتب العُمانية. رغم أن هذه القرية تقع ضمن العاصمة التي بدأت الحياة العصرية تحوّل طابعها القديم إلى آخر حديث ومعاصر، إلّا أنها ما زالت تحافظ على سماتها القديمة من نخيل وسكون، وكذلك من تقارب للبيوت، ولا ننسى المياه الأرضية الجارية التي تميّز القرى العُمانية من غيرها.
يدين صاحب المكتبة ومؤسّسها إبراهيم الصلتي في تأسيس مشروعه لوباء كورونا، ليس لأنه تسبّب في فصله من العمل ضمن مجموعة من موظّفي شركات سرّحوا من أعمالهم بسبب الوباء، إنما لأنّ مصادفة التفكير في ترويج الكتب، ثمّ بيعها، انبثقت من قلب تلك المعركة الكونية مع ذلك الـ"كوفيد-19". جاءت المصادفة حين طلب الكاتب العُماني بدر العبري (صاحب كتاب "فقه الطرف"، الذي تجد كتبه رواجاً بين الشباب) من إبراهيم أن يروّج له كتابه الصادر حديثاً، بعد أن انقطع الناس عن الخروج من بيوتهم، ولا يوجد حلّ مع كورونا، الذي عطّل الحياة وأجّل دورة معارض الكتب، سوى هذه الطريقة. ولكنّ إبراهيم فوجئ بعدد المتّصلين الراغبين بشراء الكتاب، ربّما لأن عزلة كورونا شجّعت على البحث عن الكتب الجديدة. وانطلاقاً من هذه المصادفة، قرّر أن يزيد من عدد الكتب التي يروّجها، بعد أن يقتنيها مباشرة من كتّابها، وكانت وسيلته في ذلك وسائل التواصل الاجتماعي المتاحة، التي زاد وهجها ونشاطها أثناء الجائحة. وهكذا... إلى أن صارت له مكتبة في قريته حيث يأوي. ثمّ ألحق المكتبةَ بمجلس تقام فيه أمسيات لقراءة إصدارات جديدة.
شارك كاتب هذه السطور مراتٍ في هذا المجلس، سواء للقراءة أو لحضور أمسية قرائية يتبعها نقاش. وجميع هذه الأماسي القرائية توثّقها المكتبة بواسطة الفيديو لتكون متاحةً. ونظراً إلى المساحة الصغيرة للمجلس، تعوّدنا أن يكون عدد الحضور محدوداً، وأحياناً لا يزيد عن خمسة أشخاص. ولكن، لأنه وسط القرية، يتميّز اللقاء غالباً بمسحةٍ من الحميمية والعفوية والانفلات من ربقة التكلف.
ومع انحسار المكتبات العامّة في مسقط وغلقها واحدةً تلو الأخرى، حافظت مكتبة "قرّاء المعرفة" على صلابتها وحيويّتها. ورغم أنها بعيدة، وتقع وسط قرية، إلّا أن وهج التواصل فيها لا يفترّ، فصاحبها إبراهيم الصلتي لا يترك وسيلة تواصل، سواء شخصية أو افتراضية إلّا وينشط فيها، عارضاً محتويات مكتبته من كل جديد وقديم من الكتب العُمانية، بل إنه ينشط حتى في الصفحات الخاصّة بـ"فيسبوك"، فما أن يعرض أحدهم إعجابه بكتابٍ ما قرأه، إلّا وترى تعليقاً سريعاً من إبراهيم يعرض فيه توفّر هذا الكتاب بمكتبته. وهو أمرٌ لا يخلو من طرافةٍ في ظاهره، ولكن شخصياً أجد الأمر ضرورياً لعرض الكتاب، ولا يمكن احتسابُه إقحاماً من صاحب مكتبة تقع في وسط قرية. وحين أسأل صاحبها عن أكثر الكتب مبيعاً، ستكون الإجابة مستغربةً حين نعلم أن الكتب الفكرية هي الأكثر رواجاً وانتشاراً، تليها التاريخية، ثمّ الإبداعية على غير المعتاد، إذ يُفترض أن تحتلّ الرواية المساحة الأكثر في الرواج.
فكرة أن تجد مكتبة لا تبيع إلّا كتباً محلّيةً نادرة في بلداننا العربية، ولكن الأمر مهم من ناحية التركيز، خصوصاً أن مكتبة "قرّاء المعرفة" من حيث المساحة صغيرة، وبالكاد تظهر بين تزاحم البيوت، لذلك يبدو تخصيصها لبيع الكتب المحلّية منطقياً، ناهيك عن أن الباحث عن كتاب عُماني لن يحتار في البحث كثيراً، فهذه المكتبة تحتوي على كل إصدار، جديداً كانَ أو قديماً.
يهطل المساء مبكّراً على القرية التي لا تسهر، وتبدأ خطوات المارّة بالاختفاء، وشيء من هدير بعيد لسيارات عابرة يبدأ في الانطفاء رويداً، مؤذناً باقتراب سبات القرية الوادعة، وبالتالي؛ إغلاق مكتبتها الوحيدة، البعيدة عن حركة الناس وتدافع الحياة.

أخبار ذات صلة.

العرابي بطل «درفت السعودية»
الشرق الأوسط
منذ 11 دقيقة