
عربي
لم تذهب جائزة نوبل للسلام إلى دونالد ترامب. هذا نبأ جيد يحتفظ للأشياء بمعانيها، ويقول إن ثمّة بعض القيم والاعتبارات المنطقية. ذهبت الجائزة إلى معارضة فنزويلية منحازة إلى كل القبح القيمي الذي يجسّده دونالد ترامب، بل منحازة حدّ الهوس بالرئيس الأميركي نفسه، وعلاوة على ذلك، متصهينة ومشجّعة للإبادة الجماعية. هذا خبرٌ سيء، غير أنه في كل الأحوال ليس مفاجئاً بالنظر إلى تسييس هذه الجائزة، وخضوعها بالكامل لمعايير لا تتعلّق بالمنطق أو بالمعنى الحقيقي والمحترم للسلام ذاته.
ليس في تاريخ الممنوحة "نوبل"، ماريا كورينا ماتشادو، سوى أنها مرشّحة سابقة، خاسرة في انتخابات الرئاسة الفنزويلية في العام الماضي، عام الإبادة الجماعية للشعب الفلسطيني في غزّة. ولأنها خسرت أمام رئيس لا تريده واشنطن في حكم فنزويلا، ولأنه رجل من أولئك الذين يحافظون على استقامة ضمائرهم، قرّرت أن تتبنّى الموقف المناقض له، فغازلت الكيان الصهيوني، ونافقت اليمين الأميركي المتصهين، وجنّدت نفسها في خدمة دونالد ترامب، فيما كرّس الرئيس نيكولاس مادورو جهده كلّه لدعم الشعب الفلسطيني في صموده أمام الهمجية الصهيونية، معلناً في مواقف عدة أن فنزويلا كلّها هي فلسطين، مشدّداً على أنّه سيأتي اليوم الذي فيه "سنرى أنفسنا في شوارع القدس منتصرين". وفي المؤتمر العالمي للتضامن مع فلسطين (2024)، اعتبر مادورو القضية الفلسطينية المدخل لتحقيق عالم عادل، لأن فلسطين هي القضية التي توحّد الإنسانية.
على أن فوز هذه الفنزويلية بالجائزة، وبالرغم من أنها تلميذة نجيبة في مدرسة ترامب، يبقى أقلّ فجاجةً من فوز رئيس أميركا المسكون بأوهام التميز والجبروت والاستعلاء على العالم، والمنحاز إلى كل ما هو غير عادل وغير إنساني، والمشارك طرفاً رئيساً في العدوان على الشعب الفلسطيني وعلى إيران، وتتأسّس إدارته على منطق الإخضاع بالقوة الباطشة.
فضلاً عن ذلك، لم يعرف التاريخ شخصاً يطلب جائزةً لنفسه لمجرّد أنه يرى نفسه الأكثر قوة عسكرية ومادية، أو أن يرى في نفسه صانع سلام، بينما هو في كل لحظة لا يعرف إلا لغة القوة العسكرية لتنفيذ ما يراه، إذ لم يتوقّف يوماً عن مقايضة العالم بمنطق الطاعة أو الجحيم، فعل ذلك مرّاتٍ في العدوان على غزّة، وكذلك في العدوان على إيران، وفي الاعتداءات على دول أميركا اللاتينية التي لا تستجيب لإملاءاته. حتى ما يفاخر بأنه أنجزه في شرم الشيخ، فإنه ظلّ حتى آخر لحظة يتوعّد الفلسطينيين بالجحيم والفناء، إن لم يوافقوا على تصوراته.
السلام عند دونالد ترامب ليس هو التعايش بين الدول والشعوب وفق أسس العدالة والاستقلال الوطني، بل هو الخضوع والإذعان لصوت الطائرات المقاتلة وقنابل الألفي طن والصواريخ المحملة برؤوس نووية. أو باختصار، السلام عند ترامب هو التهديد الدائم بالقوة الجبّارة واستخدامها على أوسع نطاق، إن لم يركع الطرف المدعو للسلام على طريقته.
سيقف دونالد ترامب على مسرح شرم الشيخ مواصلاً الافتنان بنفسه، مصدّقاً أكذوبة أنه الرجل الذي أنهى ثمن حروب وصانع السلام الأول والوحيد، مدفوعاً بتلك البارانويا التي تسيطر عليه. غير أن واقع الحال يقول إن سلام ترامب ليس أكثر من حفلة تنكّرية يختبئ فيها خلف قناع الشخص الطيّب الذي يمتلك وحده سلطة منح الأدوار والهدايا ويدير الكوكب بوصفه مالكه وحاكمه والمسؤول عنه، يكافئ ويعاقب ويعطي شهادات صلاحية بميناه ويسراه، والمطلوب من العالم أن يغنّي له ويهتف باسمه، ويبكي لأن "نوبل للسلام" أخطأت شخصه، حتى إن ذهبت إلى من ترى فيه مثلاً أعلى، وتتوسّل إليه أن يهاجم بلدها ويخضعه بالقوة.
يبقى أن "جريح نوبل" على استعداد لإحراق قناع الرجل الطيب، وارتداء وجهه الأصلي الشرير في لحظة، إذا ما عارضه أحد أو خرج عن نصوص تلمود سلامه المنقوع في الدم... لكن هذا وغيره يبقى عدم حصوله على "نوبل" شيئاً طيّباً، حتى وإن كانت الفائزة بها من تلاميذه، إذ إنها تبقى في المحصلة مجرّد سياسية صغيرة وفاشية، لكنّها ليست مدجّجةً بأساطيل تهدّد بها العالم وتبتزّه.
