
عربي
يتزايد العبء المالي على الموازنة العراقية مع تجاوز عدد الموظفين والمتقاعدين أكثر من ثمانية ملايين شخص، في وقت لا يزال فيه القطاع الخاص يعاني من الجمود وضعف النشاط الإنتاجي، ما يعمّق اختلال التوازن بين النفقات التشغيلية والإنفاق الاستثماري في البلاد. وفي تصريح صحافي، كشف وزير العمل والشؤون الاجتماعية العراقي أحمد الأسدي أن عدد الموظفين والمتقاعدين في العراق تجاوز ثمانية ملايين شخص، في رقم غير مسبوق يعكس اتساع حجم الموازنة التشغيلية واعتماد الدولة المتزايد على الإنفاق الحكومي لتغطية الرواتب والمخصصات، وفقاً لمتخصصين.
وأوضح الأسدي أن الحكومة تعمل في المقابل على توسيع مظلة الحماية الاجتماعية وشمول فئات جديدة من العاملين في القطاع الخاص ضمن قانون الضمان الاجتماعي الجديد، بهدف تحقيق العدالة بين مختلف شرائح القوى العاملة وتنظيم سوق العمل. وقال الأسدي إن وزارته مستمرة في تنفيذ القانون الجديد الذي شمل الحلاقين وسائقي سيارات الأجرة ضمن الضمان الاجتماعي، مشيراً إلى أن الوزارة تعاقدت مع 15 مستشفى داخل العراق لتقديم الخدمات الطبية والعلاجية للعمال المضمونين. وأضاف أن راتب العامل المتقاعد ارتفع من 400 ألف إلى 600 ألف دينار شهرياً، بما ينسجم مع تكاليف المعيشة الحالية، في إطار جهود الحكومة لتحسين مستوى الدخل وضمان حياة كريمة للعاملين المشمولين.
ورغم أهمية هذه الخطوات في تعزيز العدالة الاجتماعية، إلا أن ارتفاع عدد الموظفين والمتقاعدين إلى أكثر من ثمانية ملايين شخص يثير تساؤلات اقتصادية حول العبء المتزايد للموازنة التشغيلية التي تستهلك أكثر من 80% من إجمالي الإنفاق العام، ما يترك حيزاً محدوداً للإنفاق الاستثماري ومشاريع التنمية. وقال الخبير الاقتصادي عبد السلام حسن لـ"العربي الجديد" إن هذا الرقم يعكس اختلالاً هيكلياً في الاقتصاد العراقي، إذ باتت الدولة المصدر الرئيسي للدخل والتوظيف في وقت يعاني فيه القطاع الخاص من الركود وضعف الاستثمار. وأوضح حسن أن الإنفاق السنوي على الرواتب يشكل حالياً ما يقارب 68% من إجمالي الموازنة العامة، وهي تكلف خزينة الدولة سنوياً للرواتب فقط ما يصل إلى 65 تريليون دينار عراقي (نحو 49 مليار دولار)، وهو رقم مرتفع جداً قياساً بحجم الإيرادات غير النفطية، ما يجعل الموازنة العامة رهينة لتقلبات أسعار النفط.
وأضاف أن المشكلة ليست في زيادة الرواتب أو التعيينات بحد ذاتها، بل في غياب الإنتاجية المقابلة، إذ لا تزال مؤسسات الدولة تستهلك النفقات دون أن تُنتج قيمة اقتصادية موازية، في حين أن القطاع الخاص لم يحصل بعد على البيئة القانونية والتمويلية الكفيلة بتمكينه من خلق فرص عمل حقيقية. وبيّن أن الفئات المشمولة في قانون الضمان الاجتماعي التي حددتها وزارة العمل والتي تشمل الحلاقين وسائقي سيارات الأجرة تعاني من انخفاض مستوى الدخل والأجر اليومي، بسبب عدم وجود قوانين تحمي وتنظم عمل هذه الفئات وغيرها من فئات القطاع الخاص. وأشار إلى أن الحل يكمن في تحفيز القطاع الخاص عبر تسهيلات ضريبية وتمويلية وإعادة هيكلة قوانين الاستثمار والضمان، بحيث تتحول الدولة من مشغّل مباشر إلى منسّقٍ ومحفّزٍ للنشاط الاقتصادي، محذراً من أن استمرار هذا النهج سيبقي العراق في دائرة الإنفاق الريعي ويؤجل أي إصلاح اقتصادي فعلي.
وقال الباحث الاقتصادي علي العامري إن شمول فئات المهن الحرة مثل الحلاقين وسائقي سيارات الأجرة بالضمان الاجتماعي يمثل خطوة إيجابية على طريق تنظيم سوق العمل وتوسيع قاعدة الحماية الاجتماعية، لكنه في الوقت نفسه يكشف عن تحديات واقعية كبيرة ستواجه هذه الفئات في التطبيق العملي في ظل وجود العمل المزدوج. وأوضح العامري، لـ"العربي الجديد"، أن العمال في القطاعات غير المنظمة غالباً ما يفتقرون إلى الاستقرار في الدخل، ما يجعلهم عاجزين عن تسديد الاشتراكات الشهرية بانتظام، خصوصاً في ظل ارتفاع تكاليف المعيشة وضعف القدرة الشرائية، لافتاً إلى أن نجاح هذه التجربة يتوقف على مرونة النظام التأميني وقدرته على التكيّف مع طبيعة عمل هذه الفئات اليومية.
وأضاف أن تطوير نظام الضمان الاجتماعي يتطلب ألا يقتصر على الشمول القانوني فقط، بل أن يكون نظاماً محفزاً ومتكاملاً، يتضمن مساهمات حكومية جزئية أو دعماً مرحلياً للعاملين ذوي الدخل المحدود، إلى جانب تسهيلات مصرفية وتشريعات تضمن تسجيل العمال في صناديق التأمين بشكل واقعي ومستدام. وأشار العامري إلى أن إدخال فئات جديدة إلى مظلة الضمان الاجتماعي خطوة مهمة نحو تحقيق التوازن بين القطاعين العام والخاص، لكنها لا يمكن أن تُحدث أثراً اقتصادياً حقيقياً ما لم ترافقها إصلاحات مالية وهيكلية تقلص الفجوة الكبيرة في مستوى الدخل بين موظفي الدولة والعاملين في القطاع الخاص.
واعتبر أن القطاع العام يستحوذ على معظم الكتلة النقدية المخصصة للرواتب في الموازنة، بينما يظل القطاع الخاص محدوداً في قدرته على توليد فرص عمل ذات مردود عادل، ما يخلق حالة من الازدواج الاقتصادي تهدد الاستقرار على المدى الطويل. وشدد العامري على أن الدولة مطالبة بإعادة رسم سياستها في نظام الأجور والضمان الاجتماعي بحيث تعكس العدالة والكفاءة من خلال تحفيز القطاع الخاص على التسجيل الرسمي وتقديم مزايا تأمينية جاذبة، وبذلك يمكن للعراق أن يتحرك نحو اقتصاد متوازن يحقق العدالة الاجتماعية ويقلل الاعتماد على التوظيف الحكومي مصدراً رئيسياً للدخل.
