
عربي
يتزامن هذا الوقت من السنة مع حالة من السكون في المشهد الثقافي التونسي، وتحديداً صناعة الكتاب، إذ تغيب التظاهرات والفعاليات الكبرى، بداية من المعارض الوطنية والمحلية، ووصولاً إلى اللقاءات والندوات. في وسط هذا الهدوء العام، تبدو المكتبات وحدها البارزة، وكأنها الشاهد الوحيد على استمرارية الحياة الأدبية والفكرية. سواء عبر واجهات المكتبات، أو عبر وسائط التواصل الاجتماعي، تعرض أهم الإصدارات وأحدثها.
توحي الصورة الأولية حول نشاط المكتبات بوجود حالة من الاستقرار الدائم في عملها طوال السنة، وهو تصور يفنده الواقع، الذي يبدو أنه يسير على وقع منتظم، تحدده معطيات أساسية: المعارض ودورة رواتب الموظفين والعطل السنوية. أما ما يخص المعارض، فتشارك المكتبات الكبرى فيها دورياً، وتحديداً في معرض تونس الدولي للكتاب، الذي يعقد في مايو/ أيار من كل عام، ومعرض سوسة للكتاب الذي عادة ما ينظّم بعده مباشرة. في المقابل، ما إن ينقضي هذا الموسم والذي لا يتجاوز الشهرين في السنة، حتى تعود إلى المكتبات حركيتها، باعتبارها المصدر شبه الوحيد لترويج الكتب، خاصة أمام غياب كليّ لمعارض الكتب الجهوية في بقية المدن. أما شهرياً، فيرتبط هذا السوق ارتباطاً وثيقاً بمعطى الأجور والرواتب، إذ يغلب على المجتمع التونسي انتماء أفراده إلى طبقة وسطى واسعة، تقوم مداخيلها أساساً على فكرة الرواتب الشهرية. وسواء تعلق الأمر بالقطاع العام أو الخاص، تتقارب مواعيد صرف الرواتب، عادة في الأسبوع الأخير من كل شهر، وهو ما يؤثر مباشرة على عمل المكتبات. يشهد الشهر ثلاثة أقسام: فترة ذروة المبيعات، والتي تشمل الأسبوع الأول بعد تسلّم الرواتب، ثم فترة تراجع الزخم، والتي تشمل الأسبوعين المواليين للأسبوع الأول، والتي تتراجع فيها المبيعات تدريجياً، حتى نصل إلى القسم الأخير، الذي يوافق في التقويم عادة أواسط الشهر، وتتراجع فيه مبيعات المكتبات لنسب منخفضة جداً، وهكذا دواليك.
تراجع ظاهرة المكتبات الشاملة لصالح التوجه نحو التخصّص
وإلى جانب ما سبق، يتأثر عمل المكتبات أيضاً بفترات العطل، خاصة العطلة الصيفية. خلالها، يعود إلى المكتبات زخمها، بفضل عودة التونسيين المقيمين في الخارج، والذين على خلاف المقيمين داخلياً يميلون أكثر إلى اقتناء الكتب. "عولة من الكتب"، هكذا يصف المغتربون، مقتنياتهم السنوية كلّ صيف من المكتبات التونسية قبل انقضاء إجازاتهم، في إشارة إلى كمية المواد الغذائية التي كانت تخزّن قديماً، للاستهلاك بقية السنة. وفي المدن السياحية الكبرى، يتعزز هذا الموسم الصيفي بتوافد السياح، خاصة العرب منهم، على بعض المكتبات ذات البعد السياحي. على غرار مكتبة الكتاب التي يقع فرعاها الأساسيان في منطقتين من أهم الواجهات السياحية للعاصمة التونسية: شارع الحبيب بورقيبة، الشارع الرئيسي في العاصمة، وضاحية المرسى البحرية.
يتدخل عامل آخر في توفير بنية صلبة لعمل يعض المكتبات، خاصة الرئيسة منها، وهو معطى التخصص، إذ من الواضح اليوم تراجع ظاهرة المكتبات الشاملة، وإن لم تختف كليّاً، لصالح التوجه نحو التخصص أكثر فأكثر، وتحديداً في العاصمة. في ما يخص بعض المكتبات، فرَض هذا التخصص معطيات تاريخية وسياسية معينة، على غرار مكتبة بهجة المعرفة، والتي ساهم انتماء مؤسسها المنصف الدبوسي، إلى التيار اليساري منذ سبعينيات القرن الماضي، في تحولها إلى فضاء لالتقاء شخصيات تنتمي إلى المعارضة قبل الثورة في 2011. وهو ما تواصل أثره حتى اليوم، في خط عمل المكتبة، الذي تغلب عليه الدراسات والبحوث في حقول العلوم السياسية والاجتماعية، ذات المرجعيات اليسارية الواضحة. في المقابل، ساهم تراجع الرقابة إثر الثورة، في رفع الحظر الضمني، والذي كان مفروضاً بقوة ضد كل المؤلفات والعناوين ذات التوجه "الإسلامي". وهنا ظهرت عدة مكتبات، نجحت عبر السنوات الماضية في ربط اسمها بالمؤلفات الدينية والفقهية على غرار مكتبة الإمام المازري. وكثيراً ما نشأ التخصص عن معطيات وخيارات تتخذها المكتبة ذاتياً، وفي هذا الصدد، برزت أسماء كثيراً ما اقترنت بأصناف محددة على غرار التخصص في الأدب المترجم، في حين اشتهرت أخرى بالتخصص في عرض المؤلفات الفرنسية والإنكليزية على غرار مكتبة كيلتيرال.
ظهور مطابع تمارس عملية قرصنة الكتب بشكل متواصل وواسع
مشهد يعكس غياب هيكلية موحدة وناجعة في تمثيل القطاع والدفاع عن مصالحه، خاصة أمام الإشكاليات الكبرى، والتي مثّلت جائحة كورون، أبرز مثال عليها. والتي كان من النتائج المباشرة لها، تراجع عدة مكتبات عريقة، وأغلق بعضها على غرار مكتبة بوسلامة، التي لعبت دوراً بارزاً لعدة عقودلا فقط ضمن قطاع المكتبات، بل وفي قطاع النشر، كما لا توجد سياسات رسمية لدعم قطاع المكتبات على غرار دور النشر، والذي يتمتع بآليات واضحة، رغم هناتها، للدعم العمومي، من قبيل منح نشر بعض المؤلفات، أو منح الورق. أما في ما يخص المكتبات، فتبقى الصورة الوحيدة المحتملة لوجود مثل هذا الدعم، متمثلة في آلية الاقتناءات والشراءات التي تقوم بها مؤسسات حكومية، مثل اقتناءات وزارة الثقافة الدورية لتزويد المكتبات العمومية الجهوية، أو مكتبات المعاهد والكليات الجامعية، إضافة إلى بعض المكتبات الخاصة في مؤسسات بعينها على غرار مكتبة مجلس النوّاب. غير أن التطبيق العملي لهذه العمليات، يكشف عن محدودية لاستفادة المكتبات منها، إذ عادة ما تتم مثل هذه الشراءات من دور النشر مباشرة، في معارض الكتب. أو تستفيد بها مكتبات معينة، وكثيراً ما تكون المكتبات الكبرى، في حين لا تستفيد نظيراتها الصغرى من ذلك إلا في القليل النادر.
ويعاني هذا القطاع أيضاً قرصنة الكتب، أي طباعة الكتب وتوزيعها بشكل موازٍ من دون موافقة دور النشر الأصلية. دخلت هذه الظاهرة السوق التونسية عن طريقين: الأول، عن طريق الاستيراد، وتحديداً من بعض بلدان المشرق العربي. وهي عملية لا تخضع لرقابة ناجعة تحول دونها. أما الطريق الثاني، والذي يصفه المكتبيون بأنه الأخطر، فيتمثل في ظهور مطابع ومكتبات محليّة، تمارس هذه العملية بشكل متواصل وواسع، خاصة عبر وسائل التواصل الاجتماعي. ومن بين مختلف أصناف الكتب، بات من الواضح أن كتب التنمية البشرية من جهة، والطبعات القديمة من الكتب الكلاسيكية التونسية (خاصة في التاريخ والفقه) هي الأكثر استهدافاً في عمليات التزوير.
