
عربي
في صباح يوم الخميس التاسع من أكتوبر/تشرين الأول الحالي، دخل اتِّفاق وقف إطلاق النار في غزة حيِّز التنفيذ، لتبدأ على أثره المرحلة الأولى من الخطة المتَّفق عليها بين حركة المقاومة الإسلامية "حماس" وإسرائيل في اجتماعات شرم الشيخ، وشهدت مراسم التوقيع لحظة دلالية عندما وضع قادة حركة حماس لافتة باسم فلسطين، في إشارة واضحة إلى أنّ القضية لا تزال حيّة، وأنّ منطق المقاومة هو الذي فرض نفسه على طاولة المفاوضات. يأتي هذا المشهد ليفنِّد، بشكل عملي، التصريحات الإسرائيلية الرسمية التي زعمت تحقيق جميع أهداف رئيس الوزراء نتنياهو في القطاع، بدءاً من محو اسم "حماس"، وصولاً إلى ترحيل من تبقَّى من الغزيين، تمهيداً للسيطرة الكاملة على غزة.
تؤكِّد الحقائق على الأرض أنّ هذا الاتِّفاق لم يكن منحة من أحد، بل كان ثمرة لـ"معادلة الصمود" التي كتبها أهالي غزة بدمائهم وتمسُّكهم بأرضهم، مدعومين بـ"أسطول الحرية" الذي حاول اختراق الحصار بحراً، وتصميمه على تكرار المحاولة حتى النجاح، وكذا تصاعد الاعتراف الدولي بدولة فلسطين، والوساطة القطرية المتواصلة، ومبادرة الرئيس الكولومبي، غوستابو بيترو، الذي أضاف عاملاً جديداً للمعادلة بتعهُّده العلني بإرسال جيش لتحرير غزة، ومطالبته دولاً آسيوية بالانضمام إليه، في خطوة وُصفت بأنّها "كسرٌ لجدار الصمت"، من خلال وضع الولايات المتّحدة وحليفتها إسرائيل أمام تحدٍّ مباشر يترجم الكلام إلى فعل، والوعود إلى خطط عسكرية على الأرض.
ينبغي التعامل بحذر مع هذا الإعلان المُؤخَّر بوقف الحرب على غزة الذي يُواجه جداراً من التساؤلات المصيرية
في الواقع، ينبغي التعامل بحذر مع هذا الإعلان المُؤخَّر بوقف الحرب على غزة الذي يُواجه جداراً من التساؤلات المصيرية، في مشهدٍ يكرِّس التعقيد لا الحلّ. فمن خلف الستار، تطفو على السطح تصريحاتٌ مثيرة للجدل؛ فقبل أيامٍ من الإعلان، أطلق الرئيس الأميركي دونالد ترامب تصريحاً استفزازياً في لقاءٍ مع شبكة "ون أميركا نيوز"، زعم فيه أنّ قضية الشرق الأوسط لن تُحلّ إلا بعد ثلاثة آلاف عام، ليعلن بعدها مباشرة عن "إنجازٍ مذهل" سيُحقِّقه: "سنحصل على غزة.. بالإضافة إلى السلام الشامل". وقبل يومين من إعلان وقف الحرب، كشف وزير الخارجية المصري عن أنّ المرحلة الأولى للاتِّفاق تستلزم إعادة انتشار القوات الإسرائيلية داخل القطاع؛ وهذا ما أشارت إليه المتحدِّثة باسم الحكومة الإسرائيلية لتفصِّله بالأرقام، مؤكِّدة أنّ إعادة الانتشار ستتمّ عند ما يُعرف "بالخط الأصفر"، وهو ما يُترجم عملياً إلى سيطرة إسرائيلية على ما يقارب 53% من أراضي غزة. يفتح هذا المشهد المُربك الباب أمام تحليلات عميقة لاستراتيجية اللعب على الحبلين؛ فترامب، من ناحية، يسوِّق لسلامٍ زائف يطمح من خلاله إلى جائزة نوبل التي لم يُحالفه الحظّ في نيلها بإنهاء الحرب الروسية الأوكرانية. ومن ناحية أخرى، يسعى جاهداً إلى إرضاء اللوبي الصهيوني في واشنطن، الذي ضخَّ ملايين الدولارات لترسيخ الاحتلال وتمهيد الطريق لمشروع إسرائيل الكبرى، الذي تبدأ خطوته العملية بالاستيلاء الكامل على قطاع غزة.
نقف الآن أمام مشهد سياسي بالغ الخطورة، فإعلان وقف الحرب لا يمكن أن يُؤتي ثماره دون ضغطٍ مباشرٍ على الوصي الأميركي الواقع حالياً في مأزقٍ اقتصادي طاحن. ها هي واشنطن اليوم، بأمسِّ الحاجة إلى سيولة الخزائن الخليجية، تلك الأموال التي تتحوّل لاحقاً إلى شريان حياة للآلة الحربيّة الإسرائيليّة، ممّا يمنح تل أبيب غطاءً مالياً وسياسياً للاستمرار في دوسها بعنفٍ نحو إبادة الفلسطينيين من دون أي حساب.
تترنَّح الولايات المتحدة الأميركية تحت وطأة أزمات اقتصادية متلاحقة، تتصاعد فيها أزمة الإغلاق الحكومي التي تهدِّد بتعطيل مؤسسات الدولة، وتتفاقم مستويات الدين العام إلى حدود غير مسبوقة، وتستشري تداعيات الحروب التجارية. تجعل هذه الأوضاع مجتمعة واشنطن أكثر حاجة من أي وقت مضى إلى أموال الخليج، التي تراها شرياناً لإنعاش اقتصادها المتدهور وتمويل سياساتها الخارجية المكلفة. ففي كل مرّة تتعثَّر فيها الإمبراطورية الأميركية جرّاء ثقل ديونها وعجز موازناتها، تمتدّ إليها أيادٍ خليجية محمّلة بمليارات الدولارات، تُنعش اقتصادها وتمنحها نفَسَ الحياة من جديد. فقد أعلنت الإمارات العربية المتّحدة عن خطّة طموحة لضخّ استثمارات تقارب 1.4 تريليون دولار خلال العقد المقبل، بينما أكَّد صندوق الاستثمارات العامة السعودي عزمه استثمار نحو 600 مليار دولار في الاقتصاد الأميركي. لكن المفارقة تكمن في المصير الذي ينتظر هذه التريليونات، فما إن تصل إلى الضفة الأخرى حتى تتحوَّل إلى وقود لآلة سياسية وعسكرية معقّدة، تتدفّق منها أسلحة متطوِّرة لدعم دولة الاحتلال الصهيوني، التي تبقى بدورها مربوطة بأوكسجين الدعم الأميركي. وهكذا، تُساق ثروات الخليج في دورة مالية معقّدة تُغذّي آلة واحدة، تتمثّل في بقاء النفوذ الأميركي والإسرائيلي في المنطقة.
تتحوَّل رؤوس الأموال الخليجية المتدفِّقة نحو الاقتصاد الأميركي عبر آليات معقَّدة إلى أداة نفوذ فعّالة
فمن خلال الاستثمار المكثَّف في أذون وسندات الخزانة الأميركية، توفِّر الدول الخليجية وصناديقها السيادية سيولة حيوية تخفِّض من تكلفة الاقتراض على الحكومة الأميركية، وتُسهِّل عليها مهمّة تغطية العجز في موازنتها، ممّا يفتح الباب أمام تمويل أكثر مرونة للبرامج العسكرية الواسعة. ولا يتوقَّف الأمر عند هذا الحدّ، بل يتعدّاه إلى استثمارات مباشرة تقوم بها صناديق عملاقة، كصندوق الاستثمارات العامة السعودي ونظيره الإماراتي، التي تضخّ مليارات الدولارات في صفقات استحواذ كبرى داخل الشركات الأميركية وقطاعات العقارات والبنى التحتية، ممّا يُعيد تدوير السيولة في الأسواق المالية، ويدعم مرونة القطاع المصرفي وصناديق الاستثمار، ويعزِّز بدوره القدرة المالية للقطاع الخاص المرتبط بشكل وطيد بصناعات الدفاع. وفي حلقة متكاملة أخرى، تُترجم مشتريات دول الخليج من الأسلحة والمعدّات العسكرية الأميركية إلى دعم مباشر لقطاع الصناعات الدفاعية، فهي تساهم في الحفاظ على استمرارية خطوط الإنتاج، وتطوير الخبرات التصنيعية، واستدامة سلاسل التوريد التي لا تخدم الجيش الأميركي فحسب، بل تمتدّ لتزويد حلفاء واشنطن، وعلى رأسهم إسرائيل، بمتطلّباتها الدفاعية عبر برامج المبيعات العسكرية الخارجية.
خلاصة القول، تتحوَّل رؤوس الأموال الخليجية المتدفِّقة نحو الاقتصاد الأميركي عبر آليات معقَّدة إلى أداة نفوذ فعّالة تُمكِّن واشنطن من الحفاظ على دعمها المتواصل للكيان الصهيوني. وعليه، فإنّ تبنِّي الدول العربية، والخليجية في مقدِّمتها، نهجاً جريئاً مماثلاً للموقف الكولومبي، عبر وقف تغذية الخزانة الأميركية بهذا السيل من التمويل، سيشكِّل ضغطاً مالياً غير مسبوق يؤدِّي إلى إنجاح دعوات وقف الحرب، وإدامة زخمها، ويساهم في تحويل المواقف الدبلوماسية إلى أفعال ملموسة.

أخبار ذات صلة.

القادسية ينتزع نقاط نيوم بهاتريك كينيونيس
الشرق الأوسط
منذ 10 دقائق