
عربي
تدرك السلطة السورية أنها تملك اليوم مفاتيحَ جديدةً للمرحلة السياسية المقبلة في حياة السوريين. وهي إذ تتعاطى مع موضوع المفاوضات مع الكيانات غير المنضوية تحت سلطتها بجدّية مطلقة، ومن موقع مختلف عن الأشهر الأولى لتحرير سورية من نظام بشّار الأسد، فلذلك أسبابٌ عديدة تستند إلى توازن واقعي بين الميدان والسياسة، خاصّة ما تفرضه ظروف سورية الجديدة، وسياساتها تجاه الجوار العربي والإقليمي، وكذلك ما تتطلّبه في الوقت نفسه حالةُ المنطقة عامّة، إذ بدا أن القوى المتدخّلة في الشأن السوري استنفدت فرص التعايش والاستثمار في الصراعات الداخلية، وهي تجد أن الاستثمار في السلام صار أنجع، وأكثر فائدة لها من وضع كل مقدّراتها في مصلحة إسرائيل التي يتسابق الجميع إلى دعم أمنها القومي، ما يعني أن الشرق الأوسط عموماً يقف أمام حالة نزع فتيل الحروب من غزّة إلى لبنان وسورية، وضمناً تركيا التي تقف منذ سنوات قاب قوسين أو أدنى من حرب ضدّ الأكراد في شمالي سورية وشرقيها. ويأتي ضمن هذا السياق تسارع اللقاءات الغربية ـ السورية التي تحمل عناوين أساسية، تقوم على تفكيك أسباب التوتر وتجنيب البلاد صراعاً كان يلوح في الأفق، خصوصاً بعد أحداث الشيخ مقصود والأشرفية أخيراً (في حلب يوم 6 أكتوبر/ تشرين الأول الجاري). وقد جرى الوصول إلى شبه جدول أعمال بين السلطة السورية وقيادات "قوات سوريا الديمقراطية" (قسد)، يبدو أنه حمل مؤشّراتٍ واضحة على رغبة مشتركة بتجاوز منطق الصدام، والانتقال إلى مسار تفاهم داخلي يقوده السوريون بأنفسهم، أي تغليب مبدأ الحلّ السياسي على العسكري، بما يحقّق مصالح جميع الأطراف.
يمثل اتفاق إدماج قوات قسد ضمن الجيش السوري اختباراً حقيقياً لجدية الطرفين في التوصل إلى تسوية لبناء مؤسسة وطنية موحدة
ولعلّ مخرجات اللقاءات الدبلوماسية، المنتظر أن تبدأ خطواتها التنفيذية قريباً، ستعكس جدّية الطرفَين في التوصّل إلى تسوية حقيقية تعوّض ما فات من تراخٍ في تنفيذ اتفاق 10 مارس (2025)، الموقّع بين الرئيس أحمد الشرع وقائد "قسد"، مظلوم عبدي، حول آلية إدماج قوات "قسد" ضمن منظومة الجيش السوري. وتعدّ هذه من أكثر القضايا حساسيةً وخلافاً، بين الاندماج الشكلي الذي يُبقي على "قسد" كتلة واحدة تحت قيادتها الحالية وإدخال عناصرها في الجيش السوري الموحّد، بما يعيد ضبط العلاقة بين المركز والمكوّنات المحلّية على أساس وطني جامع، ويضع حدّاً لاستخدام السلاح خارج سلطة الدولة. بالتوازي، تجري نقاشات معمّقة حول نموذج اللامركزية الإدارية، بما يحقق توازناً إدارياً بين خصوصية المناطق المختلفة والحفاظ على وحدة الدولة. ويعكس هذا الطرح إدراكاً متقدّماً لطبيعة التركيبة السورية، وضروراتها، لتحقيق تنمية متوازنة في كل المحافظات، فمفهوم اللامركزية الذي تطالب به "قسد" مختلفاً عن المفهوم الذي تقبل به السلطة السورية، ما يحول دون اعتباره خطوةً باتجاه التقسيم، بل باعتبارها تمهيداً لمشاركة السوريين الحقيقية في إدارة مقدراتهم الوطنية والمجتمعية.
تقدم تجربة "قسد" درساً واضحاً للمكوّنات السورية لتقاهمات تفضي إلى عقد اجتماعي يضمن الحقوق
ومن دون أي شعارات إعلامية، تواجه هذه التفاهمات حتماً جيوب مقاومة من جميع الأطراف السورية، بمَن فيهم مؤيّدو الجهتَين المُوقِّعتَين على الاتفاق، غير أن الدولة السورية تراها ضروريةً لوقف مسار الحرب وتأمين استقرار البلاد والمضي نحو إعادة الإعمار والانتقال إلى مرحلة أكثر ثباتاً. ينبع هذا التوجّه من إدراك السلطة أن الاستقرار الوطني الذي يُصان بالحوار هو أفضل وسيلة لتوطيد السلم الأهلي، وأنه يتطلّب شراكةً حقيقيةً تقطع منطق الإقصاء وتفتح الباب أمام دولة سورية لجميع أبنائها من دون استثناء.
تقدّم تجربة "قسد" درساً مهمّاً للقوى الدرزية، "الهجرية" وغيرها من المكوّنات السورية الانفصالية، ومفاده أن ملاذ أيّ مكوّن وطني هو العودة إلى طاولة التفاهمات لصياغة عقد اجتماعي يضمن الحقوق. فالرهان على الدعم الدولي خاسر، لأن المصالح الإقليمية والدولية متقلّبة، ولا تضمن لأيّ طرف استقراراً طويلاً. فالقوى الكبرى والإقليمية تتعامل مع الملفّ السوري بمنطق المساومات والتوازنات، لا بمنطق الالتزام بمصير السوريين. إن ما وصلت إليه "قسد" اليوم من انخراط في حوارات داخلية مع السلطة السورية الجديدة يعكس إدراكاً متزايداً بأن الضمان الحقيقي لأيّ كيان محلّي هو الاندماج في مشروع وطني جامع، لا الاتكاء على دعم خارجي مؤقّت تحكمه أجندات مصلحية. ومع زوال النظام السابق، وبدء مرحلة سياسية جديدة تتمتّع بتوافقات دولية كبرى وتعمل لمصلحة سلام شامل في المنطقة، لم يعد الإبقاء على الهياكل المنفصلة عن مؤسّسات الدولة يشكّل مصلحةً لأيّ طرف، باستثناء ربّما دولة الاحتلال الإسرائيلي، التي تراهن على إضعاف المجتمعات المحيطة بها، وإغراقها بالمواصفات الطائفية، لتتساوى مع نموذج "دولتها اليهودية".

أخبار ذات صلة.

هزات عنيفة تلاحق اتفاق غزة
الشرق الأوسط
منذ 10 دقائق