
عربي
تشهد المملكة العربية السعودية نمواً استثنائياً في الاستثمار في قطاع الألعاب الإلكترونية، حيث حققت 20% من إيرادات المنطقة في عام 2024 بقيمة 1.2 مليار دولار، وسط توقعات بوصولها إلى 1.64 مليار دولار بحلول 2028، وهو النمو الذي سلط الضوء على نتائج الاستراتيجية الوطنية للألعاب والرياضات الإلكترونية التي أُطلقت منذ ثلاث سنوات باعتبرها جزءاً من رؤية 2030.
وتهدف الاستراتيجية السعودية إلى خلق 39 ألف وظيفة جديدة والمساهمة بـ13.3 مليار دولار في الناتج المحلي الإجمالي بحلول نهاية العقد الجاري، حسب ما أوردت رؤية 2030، ويمثل الاستثمار السعودي في هذا القطاع استراتيجية شاملة تقودها مجموعة سافي للألعاب والتي خصصت 38 مليار دولار لتطوير القطاع عالمياً، تشمل الاستحواذ على أسهم في شركات عالمية كبرى مثل نينتندو وإيه آي (EA) وأكتيفيجن بليزارد، بحسب تقرير نشرته منصة بوليغون Polygon المتخصصة في تغطية صناعة الألعاب الإلكترونية. وتظهر بيانات "سافي" أن السعودية تضم أكثر من 25.81 مليون ممارس لألعاب الفيديو، ما يجعلها تقود منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في الإيرادات، وسط توقعات بنمو سنوي مركب يصل إلى 8.2% حتى عام 2028.
الوظائف وشركات التطوير
وأكد الخبير الاقتصادي عميد كلية إدارة الأعمال بالجامعة الأميركية للتكنولوجيا في لبنان بيار الخوري، لـ"العربي الجديد"، أن أثر التوسع السعودي في قطاع ألعاب الفيديو يتجاوز الناتج المباشر، "إذ تستهدف الاستراتيجية الوطنية للألعاب والرياضات الإلكترونية بحلول عام 2030 خلق 39 ألف وظيفة، وإنشاء أكثر من 250 شركة تطوير، ورفع مساهمة القطاع في الناتج المحلي الإجمالي إلى نحو 13.3 مليار دولار". ويمثل هذا الهدف قفزة نوعية تحول الألعاب من نشاط ترفيهي إلى رافعة رئيسية لتنويع الاقتصاد ضمن رؤية 2030، بحسب الخوري، الذي يرى أن هذه الطموحات تدعم قدرة تمويلية وتنفيذية فعلية عبر "سافي" المملوكة لصندوق الاستثمارات العامة، التي رُصد لها استثمار إجمالي بنحو 38 مليار دولار، وشملت صفقات نوعية مثل الاستحواذ على شركة Scopely بقيمة 4.9 مليارات دولار، واتفاق بيع قسم الألعاب من Niantic إلى Scopely مقابل 3.5 مليارات دولار في 2025.
وحسب خوري، فإن هذه الديناميكية ينتج عنها دخل أولي من الإنتاج والنشر، ودخل ثانوي من سلاسل التوريد والتسويق والفعاليات، ما يرفع مضاعف القيمة المضافة في قطاعات التقنية والإعلام والفعاليات، ولفت إلى أن فرص العمل تنمو على محورين، الأول مباشر ويشمل استوديوهات التطوير والنشر وإدارة البطولات، والثاني غير مباشر ويغطي البث الرقمي والتسويق وتحليل البيانات وإدارة المجتمعات والتجارة المرتبطة بالمحتوى. وأضاف: "تسهم الفعاليات الكبرى، مثل كأس العالم للرياضات الإلكترونية الذي عاد إلى الرياض في 2025 بأكبر محفظة جوائز في تاريخ القطاع بقيمة 70 مليون دولار، في خلق طلب فوري على المهارات المتخصصة، ما يعزز قدرة القطاع على توليد وظائف ذات قيمة مضافة".
التحديات والعوائق
ووفقاً لتقرير شركة رولان بيرغر Roland Berger، المتخصصة في الاستشارات الإدارية والاقتصادية، الصادر في 15 يناير/كانون الثاني الماضي، فإن السعودية ورغم هذا النمو الواعد، إلا أنها تواجه تحديات متعددة في سعيها لترسيخ مكانتها في السوق العالمية، في مقدمتها فجوة المهارات في تطوير الألعاب والتصميم، ما يحد من نمو المواهب المحلية، كما تُظهر تحليلات وجود عجز في البحث والتطوير واستثمارات محدودة في الابتكار وإنتاج الألعاب المحلية. كما تواجه الشركات السعودية أيضاً عوائق تنظيمية تتعلق بالألعاب الإلكترونية عبر الإنترنت وإنشاء المحتوى، والتي تبقى مصدر قلق للمطورين واللاعبين على حد سواء، إذ يشير تقرير نشرته منصة "شركات مباشر"، المتخصصة في التحليل الاقتصادي والمالي، في 24 سبتمبر/أيلول 2024، إلى أن حوالي 30% من الألعاب المقدمة للتوزيع في منطقة الشرق الأوسط واجهت تعديلات أو قيوداً في العام نفسه، ما خلق بيئة تنظيمية مقيدة رغم كونها ضرورية.
وعلى صعيد المنافسة، فإن أسواقاً إقليمية مثل الإمارات ومصر والأردن وتركيا تجذب بدورها الشركات والاستوديوهات والفعاليات، ما يفرض على السعودية، حسب تقدير الخوري، الحفاظ على سرعة التنفيذ والحوافز ومعايير الحوكمة لضمان بقائها الوجهة الأولى في المنطقة.
كما أشار تقرير نشرته شركة "تيك ساي ريسيرش"، المتخصصة في أبحاث السوق التقنية، في مارس/آذار الماضي، إلى مواجهة الشركات السعودية منافسة شديدة من مراكز الألعاب العالمية المثبتة في أميركا الشمالية وآسيا، حيث تهيمن هذه المناطق على صناعة الألعاب من حيث إنشاء المحتوى والابتكار التقني وحجم السوق، وغالباً ما تواجه الشركات المحلية في السعودية صعوبة في منافسة الألعاب عالية الجودة والمشهورة عالمياً التي تنتجها الاستوديوهات الدولية. لكن الخوري أوضح أن الأثر الاقتصادي لتوسع السعودية في الألعاب الإلكترونية بات قابلاً للقياس اليوم من خلال الإيرادات والفعاليات الضخمة والاستثمارات السحابية، وقابلاً للتعظيم غداً عبر تصنيع عناوين محلية قابلة للتصدير وتثبيت سلاسل قيمة حولها، وإذا تحققت أهداف 2030 المتعلقة بعدد الشركات والوظائف ومساهمة 13.3 مليار دولار في الناتج المحلي، فإن الصناعة ستنتقل إلى رافعة تنويع اقتصادي حقيقية ترسخ موقع المملكة مركزاً إقليمياً أول ووجهة عالمية معتبرة.
اقتصاد رقمي متنوع
وفي الإطار، يشير الخبير التكنولوجي وليد كرم، لـ"العربي الجديد"، إلى أن التوسع السعودي في قطاع الألعاب الإلكترونية يعكس بوضوح توجه المملكة نحو بناء اقتصاد رقمي متنوع، "وهو جزء أساسي من مستهدفات رؤية 2030، معتبراً أن استحواذ السعودية على نحو 20% من سوق الألعاب في المنطقة ليس مجرد رقم تجاري، بل مؤشر على تحول استراتيجي في بنية الاقتصاد السعودي"، مشيراً إلى أن السعودية تراهن على هذا القطاع باعتباره صناعة مستقبلية قادرة على خلق قيمة مضافة عالية، سواء من حيث العائد المالي أو من حيث بناء المهارات التقنية والإبداعية لدى الشباب، لافتاً إلى ثلاثة محاور رئيسية يعتمد عليها هذا التوسع. يتمثل المحور الأول في الاستراتيجية السعودية "في الاستثمار المؤسسي، خاصة من خلال صندوق الاستثمارات العامة الذي ضخ مليارات الدولارات في شركات عالمية مثل "Activision" و"EA" و"Embracer Group" ضمن رؤية تهدف إلى جعل المملكة لاعباً رئيسياً في صناعة الترفيه الرقمي، يليه المحور الثاني المتمثل في التحفيز المحلي، حيث تعمل الحكومة على دعم الشركات الناشئة والمواهب المحلية من خلال برامج حاضنات ومسرّعات أعمال، وتنظيم بطولات للرياضات الإلكترونية تعزز البنية التحتية الرقمية، وتفتح فرصاً أمام المبرمجين والمصممين والمطورين. أما المحور الثالث، فيتمثل "في الربط بالاقتصاد الإبداعي والثقافة الوطنية"، فصناعة الألعاب لم تعد مجرد ترفيه، بل أصبحت وسيلة لنقل الهوية الثقافية، ويمكن أن تتيح للمملكة تصدير محتوى يعكس قيمها ومجتمعها إلى العالم بشكل عصري وجذاب، حسب ما يرى كرم، لافتاً إلى أن الأثر الاقتصادي لذلك واضح في خلق فرص عمل جديدة ونوعية، خاصة في مجالات البرمجة والتصميم وإدارة البيانات، والتسويق الرقمي والبث عبر الإنترنت.
وأشار كرم إلى أن هذا التطور يواجه تحديات، أبرزها النقص في الكفاءات المحلية المتخصصة في تطوير الألعاب، ما يجعل الصناعة حتى الآن تعتمد إلى حد كبير على الاستحواذات الخارجية أكثر من الإنتاج المحلي، "كما أن المنافسة الإقليمية تزداد مع دخول الإمارات وقطر في هذا المضمار بقوة"، مشيراً إلى أن التحدي الحقيقي يبقى هو التحول من موقع المستثمر إلى موقع المنتِج، وبناء منظومة محلية قادرة على تطوير ألعاب سعودية تنافس عالمياً.
وخلص كرم إلى التأكيد أنه إذا استطاعت السعودية الموازنة بين الاستثمارات الكبرى وتنمية القدرات البشرية المحلية، فستتحول من مجرد سوق استهلاكية إلى مركز إقليمي لصناعة الألعاب الإلكترونية، ما سيكون إنجازاً اقتصادياً وثقافياً يعزز مكانتها في الاقتصاد الرقمي العالمي.
