
عربي
ألقى خطاب العاهل المغربي الملك محمد السادس، أول من أمس الجمعة، أمام مجلسي البرلمان في الرباط، بظلاله على شباب حركة "جيل زد" المطالبة بتحسين خدمات الصحة والتعليم ومحاربة الفساد وإقالة حكومة عزيز أخنوش. وعلى خلاف التوقعات التي كانت تنتظر تفاعلاً مباشراً مع الأحداث والمطالب التي رفعها شباب الحركة، الذين لم يترددوا في التوجه رأساً إلى الملك بمطالبهم، معلنين فقدان الثقة في الحكومة والأحزاب السياسية، خلا أول خطاب ملكي يتصادف مع انطلاق الاحتجاجات من أي إشارة مباشرة إلى ذلك، ما خلّف مشاعر مختلطة ما بين خيبة الأمل لدى بعض الشباب والتفاؤل جراء استجابة ضمنية لمطالبهم لدى آخرين، فيما التزمت الحركة الصمت إزاء الخطاب الملكي. لكن رغم هذا الصمت، كان لافتاً إعلان حركة "جيل زد" تعليق التظاهرات خلال يومي السبت والأحد (أمس واليوم)، مؤكدة أن هذا القرار "ليس تراجعاً عن الحراك"، وإنما خطوة تكتيكية لإعادة التنظيم وتوحيد الصفوف استعداداً لـ"مرحلة أكثر فعالية وتأثيراً".
خطاب الملك
ودعا العاهل المغربي أول من أمس، في خطابه، إلى تشجيع المبادرات المحلية والأنشطة الاقتصادية، وتوفير فرص الشغل للشباب، والنهوض بقطاعات التعليم والصحة، وتأهيل المجال الترابي، مؤكداً أن بلاده تنتظر "وتيرة أسرع وأثراً أقوى من الجيل الجديد من برامج التنمية المحلية، التي وجهنا الحكومة إلى إعدادها، وذلك في إطار علاقة رابح رابح بين المجالات الحضرية والقروية". كما اعتبر أن "توجه المغرب الصاعد نحو تحقيق العدالة الاجتماعية والمجالية، يتطلب تعبئة جميع الطاقات"، مؤكداً أن "التحول الكبير الذي نسعى إلى تحقيقه على مستوى التنمية الترابية، يقتضي تغييراً ملموساً في العقليات وفي طرق العمل، وترسيخاً حقيقياً لثقافة النتائج، بناء على معطيات ميدانية دقيقة، واستثماراً أمثل للتكنولوجيا الرقمية". وتابع: "ندعو الجميع، كل من موقعه، إلى محاربة كل الممارسات التي تضيع الوقت والجهد والإمكانات، لأننا لا نقبل أي تهاون في نجاعة ومردودية الاستثمار العمومي".
دعا الملك إلى إعطاء عناية خاصة للمناطق الأكثر هشاشة
كما دعا الملك إلى إعطاء عناية خاصة للمناطق الأكثر هشاشة، بما يُراعي خصوصياتها وطبيعة حاجياتها، وخصوصاً مناطق الجبال والواحات، والتفعيل الأمثل والجدي لآليات التنمية المستدامة للسواحل الوطنية، وكذلك توسيع نطاق المراكز القروية، باعتبارها فضاءات ملائمة لتدبير التوسع الحضري، والحدّ من آثاره السلبية، على أن تشكل هذه المراكز الناشئة حلقة فعّالة في تقريب الخدمات الإدارية والاجتماعية والاقتصادية من المواطنين في العالم القروي.
وجاءت دعوة العاهل المغربي في وقت تعيش فيه البلاد منذ 28 سبتمبر/أيلول الماضي، على وقع احتجاجات تقودها حركة "جيل زد" للمطالبة بتحسين خدمات الصحة والتعليم ومحاربة الفساد، لكن الخطاب لم يتطرق بأي شكل من الأشكال إلى الاحتجاجات. وقال زياد الأيوبي، أحد شباب "جيل زد"، لـ"العربي الجديد"، إنه "مع الأسف الشديد، الرسالة التي وصلت كانت رسالة صمت، تزيد من الإحباط والشعور بالغبن لدى الشباب الغاضب. لقد كنا ننتظر موقفاً أكثر قوة وحزماً في مواجهة الفساد والحكومة وغياب العدالة الاجتماعية"، مؤكداً أنه "في ظلّ هذا الوضع، لا محيد عن الاستمرار في الاحتجاجات إلى حين تحقيق المطالب".
"جيل زد" يعلّق التظاهرات
في المقابل، رأى الشاب أسامة الفاضلي، في حديث مع "العربي الجديد"، أن خطاب الملك تضمن رسائل غير مباشرة تخصّ بعض مطالب حركة "جيل زد" المتعلقة بتحسين خدمات الصحة والتعليم، مقابل غياب قرارات كان ينتظرها الشباب وعلى رأسها إقالة حكومة عزيز أخنوش. وأضاف: "كيفما كان الحال، فإن حراك شباب جيل زد أعطى أكله، وأن مغرب ما بعد الاحتجاجات ليس هو مغرب ما قبلها. على كل، أعتقد أن تحقيق مطالبنا يحتاج إلى نفس طويل، وإلى استمرار الحراك السلمي، وأنا متفائل بخصوص المستقبل".
في هذه الأثناء، أوضحت الحركة، في بيان وجهته إلى الرأي العام، أمس السبت، أن قرار تعليق التظاهرات يومي السبت والأحد، جاء بعد ساعات طويلة من النقاش والتشاور مع الخبراء الميدانيين وأعضاء التنسيقيات في مختلف المدن، مشيرة إلى أن القراءة الدقيقة للوضع الميداني والسياسي الراهن تفرض "تكييف أشكال الاحتجاج مع المستجدات لضمان استمرار الحراك بنفس الزخم والقوة". وشدّدت الحركة على أن "مطالبها المركزية لم ولن تتغير، وفي مقدمتها محاسبة الفاسدين وكل من تورط في تعطيل التنمية ونهب المال العام؛ وتحميل الحكومة مسؤولية التدهور الاجتماعي والاقتصادي الذي تعرفه البلاد؛ ثم الدفاع عن حق المواطنين في الكرامة والعدالة والمحاسبة باعتبارها مطالب غير قابلة للتفاوض". وأكدت أن الاحتجاجات المقبلة ستكون "مباشرة وموجهة ضد الحكومة وجميع الجهات التي تعرقل تحقيق مطالب الشعب المغربي"، مضيفة أنها ستعلن عن موعد التظاهرة المقبلة، في خطوة قالت إنها ستشكل "منعطفاً نوعياً في مسار الحراك".
وليست هذه المرة الأولى منذ انطلاق الاحتجاجات في 28 سبتمبر الماضي، التي تلجأ فيها الحركة إلى تعليق التظاهرات، إذ كانت قد قرّرت الثلاثاء الماضي، وقفها بشكل مؤقت إلى غاية الخميس (الماضي)، مؤكدة أن الخطوة "لا تعني تراجعاً عن المطالب، بل تأتي في إطار إعادة الترتيب والتخطيط لتصعيد آت". كما كانت قد أعلنت أنها لن تنظم احتجاجات، أول من أمس، الذي صادف إلقاء العاهل المغربي خطاب افتتاح البرلمان، "احتراماً وتقديراً لجلالة الملك"، من دون أن يعني ذلك "تراجعاً عن المطالب".
وبينما تحرص الحركة في كل مرة على تأكيد عدم تراجعها عن مطالبها واستمرار حراكها، تواجه قراراتها بتعليق الاحتجاجات انتقادات من داخلها وخارجها لجهة تأثير تلك القرارات على زخم الحراك وصدقيته.
محدّدات استراتيجية للخطاب
ووفق رئيس مركز شمال أفريقيا للدراسات والأبحاث وتقييم السياسات العمومية في المغرب، رشيد لزرق، فإن قرار الحركة تعليق احتجاجاتها للمرة الثانية، يعكس "وعياً سياسياً متقدماً لدى الجيل الجديد، وليس تراجعاً عن مطالبها". ولفت لزرق، في حديث لـ"العربي الجديد"، إلى أن الحركة اختارت التوقف المؤقت كتكتيك منظم لإعادة ترتيب صفوفها وضمان فعالية أكبر في المرحلة المقبلة، خصوصاً بعد النقاشات الداخلية ومحاولات بعض الأطراف استغلال الحراك. واعتبر أن هذا القرار يعبّر عن انتقال الحركة من منطق الانفعال إلى منطق التخطيط، حيث تسعى إلى تثبيت شرعيتها الاجتماعية والسياسية فاعلاً جديداً يفرض إيقاعه على المشهد العام، دون الانجرار إلى مواجهة غير محسوبة أو فقدان الدعم الشعبي.
علّقت "جيل زد" حراكها لكنها أكدت عدم تراجعها عن مطالبها
وبالنسبة للباحث في العلوم السياسية عز الدين العزماني، فإنه على الرغم من عدم تضمن خطاب الملك إشارات واضحة إلى الاحتجاجات أو مطالب "جيل زد"، إلا أن بعض المؤشرات خارج السياق الخطابي قد توحي بوجود تجاوب غير مباشر، مثل تعيين أمين عام جديد للمجلس الأعلى للتربية والتكوين، ما قد يعقبه تحريك ملفات أخرى في مجالات الصحة والتشغيل والتنمية المجالية، خصوصاً في المناطق الهشّة.
ورأى العزماني في تصريح لـ"العربي الجديد"، أن الإمكانية تظل قائمة أمام النظام السياسي لإرسال إشارات إيجابية تعكس انفتاحه على المطالب الاجتماعية، من خلال مبادرة العفو عن معتقلي الرأي والمشاركين في الحركات الاحتجاجية. وتُعدّ هذه الخطوة من الصلاحيات الحصرية للملك، الذي يمكنه اتخاذ هذا القرار في أي لحظة، بما يندرج ضمن منطق التهدئة السياسية وتعزيز منسوب الثقة بين الدولة والمجتمع.
وأوضح الباحث أنه كان مستبعداً أن يعلن الخطاب عن قرارات سياسية استثنائية، مثل حلّ البرلمان أو استقالة الحكومة أو غيرها من المطالب، موضحاً أن خطاب الملك "يظل، في طبيعته، مناسبة سنوية منتظمة، وليست ظرفية استثنائية كتلك التي استدعت خطاب 9 مارس/آذار 2011 عقب احتجاجات حركة 20 فبراير/شباط من ذلك العام".
في المحصلة، رأى العزماني "أننا أمام خطاب تحكمه محددات استراتيجية عوض المرحلية النابعة من تعبيرات احتجاجية ومطلبية، ومحددات التوجيه نحو التأطير المؤسساتي وفق منطق الضبط الاستراتيجي للأولويات بدل التفاعل المباشر مع اللحظة الاحتجاجية، أي تقديم أجوبة عملية بالتدريج وفق أجندة محددة سلفاً يتم تسريعها"، مشيراً إلى أن منطق التوازن في التعاطي مع الاحتجاجات يستمر عملياً من خلال السماح بها وفق سقف محدد مع استمرار المحاكمات.
من جهته، أعرب أستاذ العلوم السياسية في جامعة سيدي محمد بن عبد الله في فاس، إسماعيل حمودي، عن اعتقاده، في حديث لـ"العربي الجديد"، أن "جزءاً مهماً من خطاب الملك كان حواراً ضمنياً مع شباب "جيل زد"، إذ ركّز مطولاً على معضلة التفاوتات المجالية والاجتماعية، بل إن الخطاب اعتبر أن بلوغ هدف الدولة الصاعدة غير ممكن من دون القضاء على تلك التفاوتات، وقد قدّم حلّاً لها يمر عبر التنمية الترابية محدداً أولويات لذلك".
واعتبر حمودي أن عدم تضمن الخطاب قرارات كالتي طالب بها الشباب مثل إقالة الحكومة كان أمراً متوقعاً، لاعتبارات عدة، أولها أن الاحتجاجات ظلّت محدودة ولم تغير كثيراً في موازين القوى، وثانيها أن الانتخابات قريبة، حيث ستصبح الحكومة الحالية حكومة تصريف أعمال في إبريل/نيسان المقبل. وأوضح أن الملك منذ بداية حكمه يتجنب التدخل في السير المنتظم للمؤسسات، ويفضل أن تكمل الحكومات ولايتها السياسية كاملة.
في المقابل، لاحظ حمودي أن خطاب الملك لم يتعرض سلباً للاحتجاجات، وهذا يفتح الباب أمامها للاستمرار، ويجعل اللعبة مفتوحة مرة أخرى، مضيفاً أن الخطاب لم يغلق الطريق بأي شكل أمام الشباب، وهذا معطى ينبغي أن يؤخذ في الحسبان كذلك، وفق رأيه.
