
بعد عامين كاملين كانا الأثقل على غزة منذ عقود، ألقى السلام تحيته أخيرًا على سماءٍ اعتادت أزيز الطائرات أكثر من أصوات الحياة.
فالحرب التي اندلعت عقب عملية “طوفان الأقصى”، في السابع من أكتوبر 2023، وانتهت بوقفٍ لإطلاق النار وفق اتفاق رعته أطراف إقليمية ودولية، تركت وراءها سؤالًا أكبر من هدير المدافع، “هل كانت إسرائيل حقًا تسعى إلى إسقاط حركة حماس، أم أنها اكتفت بإضعافها فقط”؟
وسط ركام الأبراج المهدّمة وضباب السياسة المتشابكة، تتجلى إجابة أكثر تعقيدًا مما يظن الكثير. فالمشهد الراهن، بقدر ما يوحي بانتهاء المعركة، يكشف استمرار الاستراتيجية الإسرائيلية القديمة، “إبقاء حماس على قيد الحياة، لكن داخل حدود الضعف المحسوب، لا لتنتصر ولا لتزول”.
من سياسة الردع إلى الإضعاف
منذ اللحظة التي فازت فيها حركة حماس بالانتخابات التشريعية عام 2006، وجدت إسرائيل نفسها أمام معادلة جديدة في غزة، سلطة مسلّحة لا تعترف بها، لكنها تسيطر على أرضٍ لا تستطيع تجاهلها!
ومع مرور السنوات، تخلّت تل أبيب عن خطاب “القضاء على الإرهاب” لتتبنى سياسة أكثر براغماتية وهي “الردع والإضعاف بدل الإسقاط.”
في كل حربٍ تقريبًا، من “الرصاص المصبوب” إلى “حارس الأسوار” وصولًا إلى الحرب الأخيرة، كررت إسرائيل المشهد ذاته: ضربات مكثفة، تدمير للبنى التحتية، ثم وقفٌ لإطلاق النار يعيد حماس إلى المربع الأول.
الهدف لم يكن النصر العسكري الكامل، بل إعادة ضبط موازين القوة كلما شعرت إسرائيل أن الحركة تقترب من تجاوز “الخط الأحمر”، وذلك بإتباع ما تسميه استراتيجية ” إدارة الصراع” بدلا من ” حل الصراع”.
في أروقة صنع القرار الإسرائيلي، تترسخ قناعةٌ مفادها أن حماس ليست خطرًا وجوديًا، بل أداةٌ يمكن التحكم بها.
فإضعافها بالحروب الدورية، وحصارها الاقتصادي، ومنعها من التمدد أو بناء قدرات عسكرية متطورة، كل ذلك جزء من سياسة مدروسة تهدف إلى إبقاء غزة تحت السيطرة دون احتلالٍ مباشر، ودون انهيارٍ كامل قد يفتح الباب أمام فوضى لا يمكن التنبؤ بها.
وهكذا تحولت الحرب بالنسبة لإسرائيل من أداة لتحقيق “النصر”، إلى وسيلةٍ لإدارة “التوازن”. حربٌ ليست لتغيير الواقع، بل للحفاظ عليه كما هو.
لماذا لا تريد إسرائيل إسقاط حماس؟
في الظاهر، تبدو إسرائيل كمن يخوض حربًا مصيرية مع حماس، لكن في العمق، تسير حساباتها على خيطٍ أدق من ذلك بكثير.
فإسقاط حماس، من وجهة نظر المؤسسة الأمنية الإسرائيلية، ليس هدفًا استراتيجيًا، بل مخاطرة غير مضمونة العواقب.
أولًا، لأن وجود حماس يعني بقاء الانقسام الفلسطيني قائمًا بين غزة التي تديرها “حماس” والضفة الغربية” تحت إدارة “فتح”، وهو انقسام يخدم إسرائيل سياسيًا.
فحماس تُضعف السلطة الفلسطينية، وتُفقدها شرعيتها في تمثيل كل الفلسطينيين، ما يجعل أي مفاوضات سياسية مستقبلية سهلة التعطيل بحجة “لا يوجد طرف فلسطيني موحّد، فمع من نتفاوض!”.
ثانيًا، لأن إسقاط حماس سيخلق فراغًا سياسيًا وأمنيًا في غزة، لن تستطيع إسرائيل ملأه دون أن تعود للاحتلال المباشر، وهو السيناريو الذي تحاول تجنّبه منذ انسحابها عام 2005.
فمن سيحكم مليوني إنسان يعيشون في واحدة من أكثر المناطق كثافةً في العالم؟
ومن سيتحمل مسؤولية الكهرباء والمياه والرواتب والمعابر؟
الجواب بسيط: ليس إسرائيل بالطبع!
ثالثًا، لأن حماس، رغم عدائها المعلن، عدو يمكن التنبؤ به.
تعرف إسرائيل قواعد لعبتها وحدود تصعيدها، ويمكنها دائمًا أن تضبطها بالحسابات العسكرية أو بالحصار.
لكن انهيارها الكامل قد يفتح الباب أمام جماعات أكثر تشددًا، لا يمكن التفاهم معها أو احتواؤها.
أما السبب الرابع، وهو الأعمق، أن بقاء حماس يبرّر استمرار القبضة الأمنية الإسرائيلية على غزة، وعلى مجمل القضية الفلسطينية.
فوجود “التهديد” الدائم يمنح إسرائيل غطاءً سياسيًا أمام العالم لتبرير حصارها وضرباتها لإضعاف روح المقاومة، بل ويُبقي الداخل الإسرائيلي متماسكًا خلف خطاب “الأمن أولًا”، وجود حماس (المصنفة كمنظمة إرهابية في الغرب) يعطي إسرائيل مبررًا دائمًا أمام المجتمع الدولي لأي قصف أو عدوان.
عندما يُقتل مدنيون في غزة، تقول إسرائيل: “نحن نحارب إرهابيين، لكن حماس تختبئ بين المدنيين.”
وبهذا الشكل، تُضعف التعاطف العالمي مع الفلسطينيين وتحوّل التركيز إلى “مكافحة الإرهاب” بدل “تحرير الأرض”.
بهذه المعادلة المعقدة، تعيش حماس على هامش الضعف المسموح، وتُبقي إسرائيل على قوتها دون الحاجة إلى سلامٍ حقيقي.
صراعٌ مُدار بدقة، لا يُراد له أن ينتهي، ويُعاد إنتاجه كل بضع سنوات باسم “الردع”.
غزة، الثمن الدائم للمعادلة الثابتة
منذ سنوات، يدفع الغزّيون ثمن هذه السياسة التي تتبناها إسرائيل، فالحصار اليومي صار مميت أكثر من الحرب ذاتها، والذي يدار بلا دخانٍ ولا هدنة!
الاقتصاد ينهار، والمرافق بالكاد تعمل، والناس يواصلون الحياة كما لو أنهم يتعلمون الصبر على جغرافيا مغلقة.
إسرائيل تبرر قيودها بحجة “منع تعاظم قوة حماس”، لكن النتيجة كانت مجتمعًا بأكمله يعيش تحت اختبار البقاء. أما حماس، فتجد نفسها عالقة بين حكمٍ يرهقها وشعبٍ ينهكه الحصار.
في النهاية، تحوّل القطاع إلى مساحة محاصَرة من الطرفين: عدوّ يخشى سقوطها، وسلطة تخشى انهيارها.
وفي المنتصف، شعبٌ يواصل العيش لأن لا خيار آخر أمامه!
بين حماس وفتح.. من المستفيد من بقاء المعادلة؟
منذ انقسام البيت الفلسطيني، باتت العلاقة بين حركتي حماس وفتح أشبه بميزان لا يسمح لطرف أن ينهض دون أن يهبط الآخر. حماس تحكم غزة بسياسة “المقاومة”، بينما تدير فتح الضفة بسياسة “التنسيق والاعتدال”، وكلاهما يقدّم نفسه ممثّلًا للمصلحة الوطنية، وإن اختلف تعريفها.
وجود سلطتين متنازعتين أراح إسرائيل من عبء التعامل مع كيان فلسطيني موحّد يمكن أن يفاوض بجدية. إسرائيل تدرك أن بقاء حماس في غزة، بقدر ما يهددها عسكريًا، يبرر حصارها ويضعف شرعية السلطة الفلسطينية التي تعجز عن توحيد الصفوف. وفي المقابل، يخدم بقاء “فتح” في الضفة معادلة “الشريك القابل للتفاهم” أمام المجتمع الدولي.
سلطة تفاوض لكنها عاجزة، وحركة تقاوم لكنها محاصرة، وإسرائيل المستفيد الأكبر من استمرار هذا الانقسام. فكلما اشتد الصراع بين الفصيلين، تضاءلت المساحة التي يمكن أن يولد فيها مشروع وطني حقيقي.
اليوم، بعد حرب أنهكت الجميع، لا أحد يربح سوى من يملك الوقت والقدرة على إطالة اللعبة. وبينما يحلم الغزيون بليلٍ دون قصف، ويبحث أبناء الضفة عن دولةٍ لا تمر من حاجز إسرائيلي، يبقى السؤال معلّقًا:
هل يملك الفلسطينيون شجاعة كسر المعادلة قبل أن تتحول إلى قدر دائم؟
وهل اسرائيل وحدها المستفيدة من هذا الإنقسام، أم أنه يخدم أطرافا أخرى؟
The post لماذا تسعى اسرائيل إلى إضعاف حماس لا اسقاطها؟ appeared first on يمن مونيتور.