
لا يكمن الوجع اليمني اليوم في العوز الاقتصادي أو في تخوم الخريطة المتغيرة فحسب، بل في أزمة وجودية أعمق بكثير؛ أزمة فقدان اليقين وتشتت الذاكرة الوطنية. كيف لأرض كانت تُدعى “السعيدة” أن تغرق في هذا الضنك المعرفي؟ إنها مفارقة لا يجيب عليها مجرد تحليل سياسي، بل تتطلب وقفة فلسفية أمام المرايا المتصدعة للتاريخ.
أولاً: خذلان الذاكرة.. عندما يتحول التاريخ إلى عبء
اليمن، هو ذاكرة البشرية عن العروبة والحضارة؛ أرض سبأ وحمير، مهد الحضارات الأصيلة. كانت هذه الذاكرة قوة دفع، تحفز على البناء والوحدة. لكن ما حدث في العقود الأخيرة هو خيانة للذاكرة الوطنية التي كان يفترض أن تتوحد حول مفهوم الدولة المدنية الشاملة.
* اغتصاب اليقين الأول (الوحدة): كانت وحدة ١٩٩٠ هي ذروة الحلم الوطني، لكنها لم تُبنى على أرضية صلبة من الفلسفة المدنية. انفجرت حرب ١٩٩٤ ليس كصراع عسكري، بل كصراع على “حق الامتلاك” وليس “واجب الشراكة”. تم إحلال يقين الإقصاء محل يقين الوحدة الموعود، ومنذ تلك اللحظة، تحول التاريخ من مُلهم إلى عبء يُستغل لتبرير التبعية.
* تشظي الهوية: بفشل الدولة المركزية في إرساء العدل، فُسح المجال لعودة الأشكال البدائية للولاءات (الطائفة، القبيلة، المنطقة). تحوّلت الهوية اليمنية الموحدة إلى فسيفساء متصارعة، كل طرف فيها يدّعي امتلاك الحقيقة واليقين، بينما الحقيقة الوحيدة هي أن اليقين الوطني قد فُقد.
ثانياً: الفراغ الأخلاقي.. خذلان السياسة والضمير
عندما تفشل الدولة في توفير العدالة الوجودية – أي حق المواطن في الكرامة والفرصة المتساوية – تخلق فراغاً أخلاقياً يبتلع النظام السياسي كله.
* النخبة كمنتج للفراغ: كانت النخبة السياسية، قبل ٢٠١٤، مشغولة بـ “المصالح الصفرية”؛ تلك التي لا تحقق مكاسب لطرف إلا على حساب الطرف الآخر. هذا التناحر، وغياب البصر السياسي، هو ما مكّن القوى المسلحة من ملء الفراغ. لم يأتِ الانقلاب من قوة خارجية خالصة، بل نبت في أرض خصبة من غياب الضمير السياسي الذي رهن مصير الأمة لحسابات شخصية وفئوية ضيقة.
* الخذلان المُعولَم: الخذلان الإقليمي والدولي أضاف طبقة من التعقيد. التدخل الخارجي، مهما كانت نواياه الأولية، تحول إلى “تأميم للصراع”. فبدلاً من أن يكون مشروعاً لإنهاء الحرب، أصبح مشروعاً لإدارة توازن القوى بالوكالة. الدول العظمى اكتفت بدور “مدير الكوارث الإنسانية”، رافضةً لعب دور “مهندس التسوية السياسية القسرية” التي تفرض خارطة طريق قاسية لكنها منقذة.
ثالثاً: العودة إلى اليقين الأصيل.. فلسفة الوحدة الفيدرالية
إن الخلاص من هذا التيه يتطلب التوقف عن البحث عن الغالب والمغلوب، والاعتراف بأن السلام المستدام هو الانتصار الوجودي الوحيد الذي يستحقه اليمنيون. يجب استعادة “اليقين الأصيل” للدولة عبر مرتكزات لا تقبل المساومة:
* استعادة يقين الوحدة الفيدرالية: يجب أن تتجسد الدولة المستقبلية في شكل فيدرالي واسع يُقرره مؤتمر وطني يليه استفتاء ملزم. هذا ينهي الصراع على شكل الهوية ويحقق عدالة التوزيع الجغرافي للسلطة والثروة، جاعلاً من الوحدة الفيدرالية خياراً وجودياً حراً ومستداماً يقوم على الشراكة والعدل لا الإقصاء.
* استعادة يقين الحياد: لا يمكن بناء جيش وطني ما لم يُجرّد من كل عقيدة حزبية أو طائفية. يجب فصل المؤسسة العسكرية والأمنية عن الملف السياسي بشكل مطلق، ليكون ولاؤها الوحيد لليمن كجغرافيا وشعب.
* استعادة يقين الاقتصاد الأخلاقي: لا سلام دون عدل اقتصادي. يجب تحييد كل الأصول السيادية (البنك المركزي، الموانئ، إيرادات النفط والغاز) تحت إدارة محايدة وشفافة، والبدء الفوري بدفع مرتبات كل موظفي الدولة في كل المحافظات. هذا الإجراء هو أول وثيقة اعتذار من النخبة للمواطن، وأول خطوة نحو بناء الثقة الوجودية في قدرة الدولة على أن تكون راعية وليست جابية متناحرة.
اليمن لا يحتاج إلى مساعدات إنسانية تنهي مجاعة مؤقتة، بل يحتاج إلى “ميثاق شرف وجودي” تعلنه نخبته: نداء العقل والعدل فوق ضجيج السلاح ومكاسب الأصفار. متى تعود الذاكرة اليمنية إلى مجدها الأصيل وتتخلى عن هذا العبء الثقيل من الخذلان؟
The post اليمن: البحث عن “يقين ضائع” بين أنقاض الذاكرة والوحدة appeared first on يمن مونيتور.