عالم القطط
عربي
منذ أسبوع
مشاركة
كلّ قطط حي بدارو الذي أسكنه في بيروت مخصية. إي نعم. تقريباً كلّها. لذا نادرًا ما تسمع من الشقق مواء التزاوج في شهر شباط/فبراير، المعروف بكونه شهر الخصوبة والتزاوج في عالم الهررة. لكن قطط الشارع الشاردة تعوّض النقص في الأوركسترا. لذا، كان وقع أعراض البلوغ التي ظهرت للمرّة الأولى على قطتي الصغيرة، مؤثّرًا. فجأة، ربطت تلك الأعراض بيني وبينها بلغة الأنوثة العابرة للأجناس، أو بالأحرى للحيوانات اللبونة التي ننتمي إلى فصيلتها. وعندما حدّثت البيطري عنها، أكّد لي أنها بالفعل قد بلغت للتو.  حين جلبتها في بداية ذلك العام كخطيبة لهرّي الذي تبنيته من الشارع، كانت ما زالت بعمر الشهر أو أكثر قليلا. هو أيضا كان دون سن البلوغ. ثم في يومٍ ما، بدأ يموء بطريقة مُحيّرة!  بداية لم أفهم لقلّة خبرتي بموضوع الحيوانات الأليفة، فقد كانت تجربتي الأولى مع القطط. ثم فهمت، بعد أن تفاقم الأمر، حين "لمّح" لي الناطور الستيني إلى أنّ هرّي يموء لأنه "جهلان". و"جهلان"، هي كلمة بالعامية تُفيد معنى الطائش الذي يُلاحق النساء. كانت تلك الطريقة المهذّبة لإبلاغ سيّدة مثلي بأنّ هرّها يبحث عن أنثى. ضحكت كثيراً للتعبير، ثم أخذت أراقب "سينجر" الذي أسميته تيمّناً بماركة ماكينة الخياطة الأشهر، لأنّه كان يواصل العضّ، وهي سمة صغار القطط المنزوعة عن ثدي أمها قبل الفطام. لذا كنت أتفكّه بالقول إنّه بالإمكان درز بنطلون بكامله تحت أسنانه.  تعلّمت و"سينجر" التفاهم حين استوعبت أنّه يعبّر بجسده كلّه. قضينا وقتاً سعيداً من الانسجام الى أن.. بلغ.  فجأة، اختفت تلك التدويرة التي تعبّر عن الدهشه في عينيه. ثقلت جفونه أكثر، وأصبحت نظرته تتزحلق عن كلّ ما حوله كما لو كان زاهداً فيه أو إنه يعاني من مللٍ ما.  لا يحتمل الأمر ذكرين من القطط وأنثى في الصالون حين بلغ، أصبح تعيساً. حلّ ذلك التعبير الحزين على وجهه. ثم سألت نفسي: أهو حزين أم يائس؟ لم أعد أفهم عليه على الرغم من محاولاته، أو بالأحرى موائه الملوّع والمتوسّل وهو قابع لا يتحرّك بجانب المدخل. أفتح له باب البيت، فيخرج قليلاً. يسنّ مخالبه بمسّاحة الأرجل الخشنة أمام العتبة، ثم يقف مكانه مُحتاراً، ناظراً ناحية الدرج كما لو كان يتساءل عمّا خلفه. وما إن أهمّ بإقفال الباب من دونه، مشجّعة له على المضي قدماً واكتشاف العالم، كما كنت أظن، حتى يتراجع إلى الداخل، ليعيد المواء المتوسّل نفسه بعد أن أغلق الباب. "جهلان" إذاً، فهمت أخيراً. كان "سينجر" أشبه بذلك الرجل الذي يعاني من تأخّر عقلي في فيلم للإيطالي فيديريكو فلليني. كان يصعد إلى أعلى شجرة في القرية، ويأخذ بالصراخ، وعلى مدى صوته "أريييييد امرأأأأأة"! كان المشهد مُضحكاً ومؤثّراً ومُربكاً ببساطته "للبشر الطبيعيين"، أي نحن. كان "سينجر" مثله، كان يموء: أريد أنثى. هكذا، قرّرت أن أستقدم له "خطيبة". ولذلك، كان عليّ إخراج الهرّ الذكر الآخر "باندا" من المنزل. فالأمر لا يحتمل ذكرين وأنثى في الصالون. كان مشهد خروج "باندا" من البيت تراجيدياً. وجدت نفسي متورّطة بحيوات تلك المخلوقات البريئة حتى العنق، لمجرّد إني لممتها من الشارع صغيرة بنيّة إنقاذها.  قبل قرار "الخطبة"، استفظعت نصيحة البيطري بأن أخصيه. رفضت التدخّل بما خلقه الله لمجرّد الاحتفاظ به في المنزل. ولقد حاول البيطري أن يقنعني بأنّ هذا الحل هو الأفضل له، كون البديل من أجل التزاوج هو الشارع، أي الموت، لأنه ربي في البيت مدلّلاً ولن يستطيع العراك مع القطط الشاردة الشرسة.  حاولت التوفيق بين الأمرين، فنزلت به إلى الشارع يوم أحد. أردت أن يعتاد ارتياده والاحتكاك بقططه، ثم العودة إلى البيت. وحين أطلقته في المرآب الخالي من السيارات، بدا مُتردّداً لكن مُتشوّقاً. أخذ يدور حول نفسه ثم يبتعد قليلاً ليشتم حدود الهررة الباقين. ثم وجد ضالته في هرّة كانت تختبيء تحت سيارة مركونة. لكن، سُرعان ما هرع "رفيقها" الضخم للدفاع عن "حريمه"، فنفش الاثنان وبرهما وأخذا يرعدان بالمواء وقد تقوّس ظهر كلٍّ منهما علامة الاستعداد للقتال، لكن من دون أن يفعلا. ثم حسمت القطة، موضوع المنافسة، الأمر، وأدارت ظهرها مولية وتبعها ذكرها. بقينا حتى المساء وبدأ يتصاعد في الليل صوت المواء من هنا وهناك. وسرعان ما اختفى "سينجر" تحت سيارة متوقفة، وقد بدا أنّه وجد قطة "عزباء" كانت تموء مثله. لا اغتصاب في عالم الهررة، فالقط لا يمكن أن ينجذب إلا إلى الأنثى التي تنادي، الجاهزة للتزاوج. أما تلك غير البالغة أو غير الراغبة لسبب ما (يكون عادة كونها حاملاً حيث تتوقف عن النشاط الجنسي) فلا يقترب منها أحد.  حين أطلقت "سينجر" في المرآب الخالي من السيارات، بدا مُتردّداً لكن مُتشوّقاً ومنذ أن اقتنيت قططاً، ازدهرت حياتي الاجتماعية في الحي. هكذا أصبحت هناك أحاديث مشتركة بيني وبين الناطور مثلاً، فهو يمتلك قطاً سميناً، تحوّل بسبب إخصائه، إلى كتلة كسولة من الفرو بالكاد تتحرّك. أما حارس الباركينغ الآتي من دير الزور في سورية، قبل احتلال داعش لمدينته بكثير، فلقد كان كلّما وجد قطة متروكة، يرن عليّ جرس الأنترفون طلباً لمساعدتها. وحين كنت أحمل قططي في الشارع قاصدة البيطري المجاور، كانت تتحرّش بي جنديات الثكنة القريبة واللواتي، للمناسبة، كنت أتوق إلى مقابلتهن كصحافية، لكنني كنت أصطدم بجدار الأمن بيني وبينهن بسبب صفتي المهنية. بعض الجنود أيضاً أخذوا يبادلونني الأحاديث بدءاً من موضوع الهررة. وعند البيطري، الذي كان يعمل في وزارة في الصباح ويأتي لعيادته هنا في الحي بعد الظهر، كنت ألتقي الكثيرين.  كانت هناك سيدة عجوز أنيقة جداً، واظبت يومياً ولأكثر من عامين، على المكوث ساعات في عيادة البيطري، جالسة على كرسي بجانب قفص هرّها المسنّ، والذي أودعته مُجبرة في العيادة بعد وفاة زوجها، كما أخبرتني، لانتقالها إلى منزل ابنها الذي كان يقرف من القطط. وحين اختفت يوماً، عرفت أنه قد مات.  وللحي حكايات هرره المُضحكة والمأساوية، تماماً كما حكايا البشر. هناك مثلاً قط واحد كان يُقلق الحارة بأكملها في موسم التزاوج وفي غيره. كان يموء بصوت عال ومزعج لدرجة، كانت تجعل الناطور يخرج إليه في الليل مُمسكاً بعصا ليطرده من تحت سيارة جورج، الجار في الطابق الأسفل، والمسؤول عن الباركينغ في النهار.  هكذا اكتشفت أنّ القط الأسود ذا المواء المُزعج لم يكن "فحلاً" يقوم بغزوات ليلية، بل كان مجرّد قط .. أطرش، يموء بصوت عال لأنه لا يسمع.  منذ أن اقتنيت قططاً، ازدهرت حياتي الاجتماعية في الحي كما كانت هناك أيضاً قطة عمياء تبنتها جارة في الطابق السادس، كما فهمت من الناطور. وفي موسم التزاوج ناداها ذكر من الشارع فما كان منها إلا أن رمت بنفسها من علٍ فماتت..  شهيدة الغرام؟ لا أملك أن أسخر من هذه الواقعة لأنّ ضحيتها حيوان. ليس هناك من شيء مضحك في ذلك. صدقوني. في شباط/ فبراير الذي مضى للتو، لم أعد أسمع مواء قطط في الشارع. استغربت الأمر كثيراً، أين اختفت كلّ تلك القطط؟ تساءلت أولاً، ثم سألت. "الأرجح أنهم سمّموها" قال لي الناطور ليردف بغضب "الله لا يوفقهم! مش حرام؟ هيدي روح". هكذا تموت القطط  غالباً في شوارع مدينتي. أما في القرية، وحين كنّا نعود بعد شهور الصيف إلى مستقرنا الشتوي، كنا نودع القطط التي لعبنا معها ودلّلناها طوال العطلة، مدركين أننا قد لا نلتقي بعضها في الصيف المقبل بسبب البرد القاسي وخلو القرية من معظم سكانها، وبالتالي من أيّ شخص قد يقدّم لها الطعام ومكاناً بجانب المدفأة.  لكن ما كان يعوّض هذا الحزن، أنّ بعضها الآخر كان ما إن يسمع، لدى عودتنا في الربيع، هدير موتور السيارة تتوقّف أمام البيت، حتى يلاقينا بشوق، وفي صحبته جراء كثيرة، تجفل منا في البداية، لكن سرعان ما تعتاد، بتشجيع من أمّها، التمسّح بثيابنا، وهي تظن أنها بذلك تجعلنا ملكاً لها دون بقية الهررة. 

أخبار ذات صلة.

( نوافذ يمنية) محرك بحث إخباري لا يتحمل أي مسؤولية قانونية عن المواد المنشورة فيه لأنها لا تعبر عن رأي الموقع..

جميع الحقوق محفوظة 2025 © نوافذ يمنية