حي الزهريات في دمشق على حافة الإخلاء.. بين الفقر والتهجير
عربي
منذ أسبوع
مشاركة
مع أولى ساعات الصباح، كانت عائلة يسرى العلي تجمع ما تستطيع من أثاث البيت الصغير في الزهريات، أحد الأحياء المتاخمة للمزة بدمشق، حيث يقطن أغلب السكان من أهالي الحي الطائفة العلوية، فوق السجاد المطويّ، وضعت حقائب مدرسية، وغطاءً صوفياً، وصورة عائلية قديمة بالأسود والأبيض. تقول لـ "العربي الجديد" وهي تنظر إلى الجدار العاري: "هذا البيت اشتراه أبي منذ أكثر من أربعين عاماً كبرنا هنا، تزوجت هنا.. واليوم يُقال لنا: انتهى الوقت". الحي الذي كان يوماً ملاذاً لعشرات العائلات من الطبقة الوسطى والموظفين الصغار، تحوّل في الأشهر الأخيرة إلى مسرح لإخطارات شفوية بالإخلاء، ترافقها ضغوط أمنية وتهديدات غير معلنة. حيث تم إنذار السكان، الخميس الماضي، وفق شهاداتهم، وأكدت لهم عناصر محلية ضرورة الإخلاء خلال أيام، من دون أي قرار مكتوب أو إشعار رسمي. أمام باب منزله الطيني المعدّل بالإسمنت، جلس محمد الأشقر "أبو يوسف" (67 عاماً)، وهو موظف متقاعد في إحدى المؤسسات العامة. كان يحدّق في صندوق خشبي يحمل أوراقاً ودفاتر قديمة. يقول بغضبٍ مكبوت "قالوا لنا: عندكم أيام وتخرجون. من أنتم؟ من أين القرار؟ لا أحد يجيب. لم يعطونا ورقة واحدة. حتى البلدية لم نرها". مضيفاً لـ "العربي الجديد": "عندي أربعة أولاد الكبير لا يكاد يعمل يوماً ويجلس أسبوعاً بلا عمل. أين أذهب بهم؟ إيجار البيوت في دمشق نار، وإذا خرجنا من هنا، فلن نجد سقفاً". رواية "أبو يوسف" تتكرر على ألسنة كثيرين في الزهريات. المنطقة التي يسكنها مئات من العائلات، معظمهم من أبناء أسر خدمت في مؤسسات الدولة أو الجيش، تواجه اليوم موجة تهجير داخلية غير معلنة، تذكّر السوريين بمشاهد النزوح الجماعي قبل أعوام، لكنها هذه المرة "من دون حرب". في بيتٍ مجاور، تروي "سناء بركات " (44 عاماً)، وهي معلمة لغة عربية في مدرسة حكومية، حكايتها لـ"العربي الجديد": "البيت ليس مسجلاً باسمنا. أبي كان مستفيداً من تخصيص سكن قبل ثلاثين سنة، بنى غرفتين وأضاف مطبخاً. لا يملكه رسمياً، لكنه بيتنا الوحيد. كل جيراننا في الوضع نفسه. اليوم يهددوننا بالخروج لأن (العقار تابع للدولة)، لكنهم لا يعطوننا بديلاً ولا حتى ورقة تثبت حقنا في البقاء". بين الجدران المتشققة، ثمة خوف معلّق. لم تعُد العائلات تعرف إن كانت تعيش أيامها الأخيرة في الحي. الأطفال يذهبون إلى مدارسهم وهم يسمعون الكبار يتهامسون عن "الإخلاء القريب"، فيما بدأت بعض العائلات فعلاً بالرحيل نحو الضواحي الأبعد، إلى بيوت مستأجرة بأسعار تفوق قدرتهم. تقول مصادر محلية لـ"العربي الجديد"، إن منطقة الزهريات أصبحت خلال السنوات الماضية هدفاً غير معلن لمشاريع عقارية وأمنية. موقع الحي المتاخم لطريق المطار العسكري، وقربه من مؤسسات عسكرية ومراكز أمنية، جعله ضمن "الخطط لإعادة التنظيم" وفق ما يصفه سكانه. لكن هذه الخطط، بحسب شهاداتهم، لا تُعلن رسمياً، بل تُترجم بزيارات ميدانية من عناصر "غير معروفين"، أو عبر تحركات لتفريغ البيوت القديمة بحجة أنها "عشوائية". يقول فؤاد إسماعيل "أبو عادل"، أحد سكان الحي منذ التسعينيات "كل شيء يجري بهدوء"، مضيفاً "لا أحد يصدر قراراً. لكن كل يوم يختفي بيت. أمس خرجت عائلة كانت تسكن هنا منذ 40 سنة. اليوم عائلة أخرى تحزم أغراضها. ونحن ننتظر دورنا". حي الزهريات.. منطقة عسكرية أم ملكية خاصة؟ في المقابل، نفى المسؤول المحلي عن المنطقة، المعروف باسم الشيخ أبو النور، وهو أحد القائمين على الملف الأمني في الزهريات، أن تكون عمليات الإخلاء "تهجيراً تعسفياً"، قائلاً في تصريحٍ لـ"العربي الجديد" إن "المنطقة عسكرية، وعشوائية من الأساس، وتعود تبعيتها إلى الدولة"، مضيفاً: "معظم من يسكنون هنا لا يملكون أي سند ملكية أو عقد رسمي، بل يعتمدون فقط على فواتير كهرباء ومياه قديمة. بالإضافة إلى ذلك، معظم السكان كانوا يخدمون في الجيش السابق، وبالتالي لا يُمنح لهم الحق القانوني في البقاء في هذه المنطقة. نحن لا نطرد أحداً ظلماً، بل نعيد الأمور إلى وضعها القانوني، وسيتم تنظيم المنطقة لاحقاً". لكن السكان يؤكدون أنهم يعيشون في الحي منذ عقود، وأنهم دفعوا تكاليف بناء وترميم، وأن فواتير الخدمات كانت تُستخدم لسنوات وثيقةَ سكنٍ رسميةً ضمن معاملات الدوائر الحكومية نفسها، وهو ما يجعلهم يشعرون بأنهم يتعرضون لـ"إقصاء تدريجي" من دون بديل. الدخول والخروج من حي الزهريات يتم عبر منفذ واحد تسيطر عليه عناصر من الأمن العام في الزهريات، تبدو المساكن الصغيرة هشّة، بعضها مصنوع من ألواح توتياء متآكلة، تكاد الرياح تهب عليها من كل جانب. الأرضيات غالباً ترابية، والجدران مشققة، والطرقات ضيقة غير معبدة. الأبواب القديمة تصدر صريراً عند كل حركة، والنوافذ غالباً بلا زجاج أو مغلّفة بأقمشة رقيقة. يعيش السكان في هذه المنازل على حد الكفاف، يعتمدون على فواتير الكهرباء والمياه فقط لتثبيت وجودهم، بينما تكاد معظم العائلات أن تفتقر إلى الحد الأدنى من التجهيزات المنزلية. الأطفال يلعبون بين الحجارة والقمامة أحياناً، والنساء يجلسن أمام البيوت يراقبن حزم الأغراض واستعداد الجيران للرحيل. خلال وجود فريق "العربي الجديد" في المنطقة، مُنعنا من التصوير بحجة أن المنطقة عسكرية، لكن مشاهدنا كشفت عن جرافات وآليات ثقيلة تقوم بأعمال حفر وتسوية، في ما بدا أنه تحضير لمشروع استثماري. كما لوحظ أن الدخول والخروج من الحي يتم عبر منفذ واحد تسيطر عليه عناصر من الأمن العام، فيما كانت بعض العائلات تحمل أغراضها على متن شاحنات كبيرة، مغادرة الحي الذي يميّزه طابعه الجبلي الأخضر والمنازل الصغيرة المتلاصقة. "نعيش هنا منذ أكثر من عشرين عاماً، وكل يوم نحاول الصمود"، تقول سوسن الطويل "أم إبراهيم" وهي تحمل رضيعها، وتضيف لـ "العربي الجديد": "البيوت القديمة لا تقاوم المطر ولا البرد، وأولادنا ينامون وسط الصعوبات، واليوم يقولون لنا: غادروا المكان". المشهد يجسد معاناة مزدوجة: فقدان الأمان والاستقرار، مع الفقر المدقع الذي يجعل أي إخلاء أو فقدان منزل ضربة قاسية لا تُحتمل، في ظل غياب أي بدائل سكنية أو تعويضات واضحة. يرى الخبير القانوني المحامي محمود البستاني أن معظم المنازل في الزهريات تقع ضمن مناطق "عشوائية" وفق القانون، لكن هذا لا يمنح الجهات المختصة الحق في الإخلاء القسري من دون تعويض أو بديل سكني. ويضيف لـ "العربي الجديد": "حتى في الحالات التي لا توجد فيها صكوك ملكية رسمية، يعتبر السكن طويل الأمد الذي يعتمد على فواتير الكهرباء والمياه أو على الاستخدام المتواصل منذ عقود حقاً من حقوق الساكن وفق أحكام القانون المدني السوري، ويجب توفير بدائل عادلة قبل أي إخراج من المنزل". مشيراً إلى أن تجاهل هذه الحقوق يعرض عمليات الإخلاء لمساءلة قضائية، خاصة إذا ترافقت مع ضغط أو تهديد مباشر للسكان. ويطالب سكان الزهريات اليوم بإيقاف عمليات الإخلاء القسري، أو على الأقل الحصول على بدائل سكنية وتعويضات عادلة. لكن أصواتهم لا تزال بلا صدى. "لسنا ضد التنظيم"، يقول "أبو يوسف"  لـ"لعربي الجديد: "لكن التنظيم لا يكون بطرد الناس من بيوتها في الليل. أعطونا حقنا أولاً".

أخبار ذات صلة.

( نوافذ يمنية) محرك بحث إخباري لا يتحمل أي مسؤولية قانونية عن المواد المنشورة فيه لأنها لا تعبر عن رأي الموقع..

جميع الحقوق محفوظة 2025 © نوافذ يمنية