
عربي
هي أقصر الحكومات عمراً منذ إنشاء النظام الجمهوري في فرنسا، فلم تمضِ سوى 14 ساعة على إعلان حكومة سيباستيان لوكورنو، السابعة في ظلّ الرئيس إيمانويل ماكرون، والثالثة بعد حلّه الجمعية الوطنية العام الماضي، حتى أُعلن سقوطها يوم 6 أكتوبر/ تشرين الأول الجاري، بعد اضطرار رئيس الوزراء إلى تقديم استقالته مستبقاً أحداثاً غدت متوقّعةً منذ لحظة إعلان تركيبة الحكومة وأسماء وزرائها، فالخيبة التي رافقت إعلانها لم تقتصر على المعارضة، بل امتدّت حتى إلى الأحزاب المشاركة في الائتلاف الحكومي نفسه. وكان أول من أطلق النار على الحكومة الجديدة وزير الداخلية برونو روتايو، الذي كتب في "إكس": "تركيبة الحكومة لا تعكس القطيعة التي وُعدنا بها. أمام الوضع السياسي الذي خلقه هذا الإعلان، سأعقد صباح الغد اجتماعَ اللجنة الاستراتيجية للجمهوريّين". تغريدة قصيرة، لكنّها كانت رصاصة رحمة على حكومة ولدت ميّتةً أصلاً، إذ حملت تهديداً مبطّناً بالانسحاب من الحكومة وإسقاطها، ما دفع رئيس الوزراء إلى تقديم استقالته تجنّباً لانفجار سياسي محتوم.
السبب الرئيس الذي دفع زعيم حزب الجمهوريين إلى هذا الموقف تعيين صديق الأمس (وعدو اليوم) برونو لومير وزيراً للدفاع، فهذا كان في السابق أحد رموز الحزب قبل أن يغادره وينضمّ إلى معسكر ماكرون، الذي عيّنه وزيراً للاقتصاد والمالية سبع سنوات متتالية (أطول مدّة يقضيها وزيرٌ للمالية في تاريخ الجمهورية الخامسة)، وخلالها غرقت فرنسا في مديونية غير مسبوقة، تحاول الحكومات المتعاقبة التخفيف من وطأتها عبر برامج تقشّف اجتماعي، انتهت جميعها بإسقاطها من المعارضة. ومن ثمّة، فُسّرت عودة لومير إلى الحكومة، إلى جانب أسماء خدمت ماكرون منذ اعتلائه سُدّة الرئاسة، مثل وزير العدل ووزير الداخلية السابق جيرالد دارمانان، على نطاق واسع، بأنها محاولة جديدة من الرئيس لإحكام قبضته على الحكومة وإعادة تدوير الوجوه نفسها التي أرهقت المشهد السياسي.
ولدت حكومة سيباستيان لوكورنو ميّتةً أصلاً، إذ حملت تهديداً مبطّناً بالانسحاب من الحكومة وإسقاطها، ما دفع رئيس الوزراء إلى تقديم استقالته تجنّباً لانفجار سياسي محتوم
لم تفشل محاولة الرئيس هذه فحسب، بل دفعت أقرب حلفائه إلى التنصّل منه ومن سياسته، فقد صرّح غابرييل أتال، آخر رئيس وزراء قبل حلّ الجمعية الوطنية (ورئيس حزب النهضة، حزب الرئيس نفسه): "لا أفهم قرارات رئيس الجمهورية. حلَّ الجمعية الوطنية، ومنذ ذلك الحين، أصدر قرارات تعطي انطباعاً بأن هناك إصراراً على التحّكم والسيطرة". أمّا رئيس الوزراء الأسبق وزعيم حزب آفاق إدوارد فيليب، الذي أعلن نيّته الترشّح للانتخابات الرئاسية المقبلة وظلّ وفيّاً للرئيس، فقد ذهب إلى أبعد من ذلك، داعياً إلى انتخابات رئاسية سابقة لأوانها. في ظلّ هذه الأزمة السياسية غير المسبوقة منذ تأسيس الجمهورية الخامسة، يجد ماكرون نفسه أمام لحظة مفصلية، ربّما الأشدّ تعقيداً في مسيرته السياسية. فماذا بقي لديه من خيارات؟
الأول، وربّما هو السيناريو الأقلّ سوءاً بالنسبة للرئيس ومعسكره، يتمثّل في تعيين شخصية توافقية قادرة على جمع الفرقاء السياسيين من الجمهوريين يميناً، حتى الحزب الاشتراكي يساراً، بعد المشاورات التي كُلّف بها رئيس الوزراء المستقيل لوكورنو. هذا السيناريو، وإنْ لا يعبّر عن رغبة ماكرون ولا يرضي غروره السياسي، فإنه يبقى الحلّ الواقعي لتجنّب الأسوأ، أي تشكيل حكومة تعايش تُبقي على الحدّ الأدنى من الاستقرار، وتمنح المؤسّسات الدستورية والحياة السياسة الفرنسية متنفّساً في انتظار الرئاسيات المقبلة.
السيناريو الثاني، فشل المشاورات التي حُدّد لها يوم الثامن من أكتوبر/ تشرين الأول الحالي موعداً نهائياً، واضطرار ماكرون إلى حلّ الجمعية الوطنية ثانية والدعوة إلى انتخابات تشريعية مبكّرة، وهو إجراء يتيحه الدستور بعد مرور عام على الحلّ السابق (التاسع من يونيو/ حزيران 2024). هذا الخيار محفوف بالمخاطر، إذ قد يؤدّي إلى تعزيز حضور اليمين المتطرّف وانكماش التحالف الرئاسي الوسطي الذي شكّل عماد ماكرون السياسي منذ 2017. ومع ذلك، لن يحسم هذا الحلّ التنافس لمصلحة أيّ طرف، لأن القطبية الثلاثية التي تميّز المشهد الفرنسي اليوم (بين الوسط واليمين المتطرّف واليسار الراديكالي) ستستمرّ في شلّ مؤسّسات الحكم ومنع أي أغلبية مستقرّة إلى حين إجراء انتخابات رئاسية. في الواقع، قد يبدو هذا السيناريو في مصلحة المتطرّفين يميناً والمتشدّدين يساراً، الذين يجدون فيه فرصةً لتوسيع قاعدتهم البرلمانية، لكن ماكرون يستخدم هذه الفرضية سلاحاً تحذيرياً في وجه خصومه، ملوّحاً بـ"شبح حكومة اليمين المتطرّف"، غير أن المفارقة أن حكومة كهذه، إن تشكّلت، لن تمسّ جوهر الإصلاحات النيوليبرالية التي أطلقها ماكرون، بخلاف حكومة يسارية قد تُقدم على إلغاء إصلاح التقاعد، وفرض ضرائب تصاعدية على الأغنياء، ومراجعة سياسات الرئيس الاقتصادية التي يعتبرها اليسار ممالأةً للأثرياء.
مشهد سياسي بئيس يفتقر إلى زعامات تاريخية على شاكلة فرانسوا ميتران وجاك شيراك
الخيار الثالث، وهو الأكثر درامية والأقلّ احتمالاً، إعلان ماكرون استقالته ضمن جدول زمني يحدّده بنفسه، استقالة مؤجّلة تسمح بالإعداد لانتخابات رئاسية مبكّرة تليها تشريعية، كما جرت العادة في النظام الفرنسي. لم يأتِ هذا الطرح من فراغ، بل لم يفتأ جان لوك ميلنشون (زعيم حزب فرنسا الأبية) عن المناداة به، إذ يرى في هذا المسار الخيار الديمقراطي الوحيد لإنهاء المأزق السياسي الحالي، داعياً أيضاً إلى تغيير الدستور وقيام جمهورية سادسة، وهذا ليس غريباً ومفاجئاً في كلام الرجل، لكن الغريب أن يأتي هذا الكلام من داخل التحالف الرئاسي.
... مهما يكن الخيار الذي سيلجأ إليه ماكرون، فإنه يبدو اليوم محاصراً بعناده ورغبته في المحافظة على إرث أثقل الواقع السياسي الفرنسي، وسط مشهد بئيس يفتقر إلى زعامات تاريخية على شاكلة فرانسوا ميتران وجاك شيراك، ناهيك عن شارل ديغول، فالرجل الذي رفع شعار "لا يمين ولا يسار" بات يواجه وطأة انقسام البلاد بين ثلاثة أقطاب متنافرة، كان هو السبب في نشوئها، وحكماً بلا أغلبية، وحكومة فاقدة للأغلبية وعاجزةً عن الحكم. ذلك كلّه في ظلّ رأي عام فقد الثقة في اليمين واليسار، وكل النخب التقليدية، ولم يعد يرى في فرنسا سوى أفق الانحدار، وبات يظنّ أن الأمل قد يكون في يد المتطرّفين العنصريين.
