عربي
منذ السابع من أكتوبر 2023، لم تعد إسرائيل كما كانت. فبعد الضربة القاسية التي تلقتها في ذلك اليوم، خرجت تدريجياً عن طورها، وتحوّلت من كيان مرتبك يخشى المجهول إلى كيان يمارس عنفًا منظّمًا يتجاوز كل القواعد. بلغ هذا الانفلات ذروته حين قصفت مقرًّا يُعتقد أنه كان يضم قيادات من حركة حماس في قطر — خطوة لم يكن من المتصور أن تُقدم عليها إسرائيل قبل سنوات قليلة.
ما نراه اليوم ليس سوى انتقال من مرحلة الخوف إلى مرحلة "البلطجة الممنهجة"، حيث تخلّت إسرائيل عن كل ضوابط الردع التقليدي. فقبل السابع من أكتوبر، كان حزب الله وحده قادرًا على فرض نوع من التوازن الردعي مع إسرائيل. أما الآن، فقد باتت الصورة مقلوبة؛ إذ يخشى الجميع من طول يدها وبطشها غير المتوقع، مستفيدة من غطاء أميركي كامل، ومن ظرف دولي مرتبك لا يملك أدوات الكبح.
ثلاث مراحل من العربدة الإسرائيلية
يمكن توصيف السلوك الإسرائيلي خلال العامين الماضيين بثلاث مراحل متعاقبة:
المرحلة الأولى — بلطجة محدودة النطاق:
بدأت باستهداف حركة حماس في غزة، ثم التوسع نحو سورية ولبنان بعد فتح حزب الله جبهة منضبطة ضمن قواعد محددة، وانتهت بضرب الحوثيين في اليمن. ورغم تجاوز هذه العمليات حدود الردع التقليدي، بقيت "مقبولة" نسبياً لدى الإدارة الأميركية السابقة في واشنطن، التي كانت تخشى انفلاتًا إقليميًّا يصعب احتواؤه.
المرحلة الثانية — بلطجة انتقالية:
مع انشغال الولايات المتحدة بالتحضير لانتخابات 2024، استغلت إسرائيل اللحظة لتنفيذ سلسلة اغتيالات، أبرزها استهداف الشهيد حسن نصر الله وقيادات بارزة في سبتمبر. كانت تدرك أن انشغال الحزبين الأميركيين بالانتخابات سيمنحها هامشًا واسعًا للمناورة. تجاوزت إسرائيل في هذه الفترة بعض "قواعد اللعبة"، ومهّدت لمراحل تصعيدية بانتظار ساكن البيت الأبيض الجديد.
المرحلة الثالثة — عربدة إقليمية:
بدأت فور تسلم الجمهوريين الحكم، مع إدارة أميركية شديدة الانحياز إلى إسرائيل. توسعت العمليات لتطاول إيران وقطر، بل وُجّهت تحذيرات مباشرة إلى أي دولة تستضيف قيادات حماس، بما في ذلك تركيا ومصر. في هذه المرحلة، تحوّلت إسرائيل من لاعب إقليمي مقلق إلى طرف يفرض أجندته على الإقليم بأكمله.
هكذا، يظهر أن مدى بطش إسرائيل مرتبط مباشرة بطبيعة الإدارة الأميركية القائمة؛ فحين يكون البيت الأبيض في يد الجمهوريين، تُطلَق يد إسرائيل بلا قيد، وحين يتولى الديمقراطيون، تُكبح قليلًا — لكن لا تُوقف.
من أين تستمد إسرائيل قوتها؟
القوة الإسرائيلية ليست وليدة المصادفة. إنها مزيج من تفوق علمي وتكنولوجي، ودعم سياسي واقتصادي غربي غير محدود. ولأي دولة ترغب في التصرف بعنجهية مشابهة، لا بد من توافر خمسة عناصر رئيسية:
تكنولوجيا متقدمة تمكّنها من اختراق أنظمة خصومها وكشفها بالكامل.
قدرة استخبارية عالية على تقدير ردات الفعل والاحتمالات الميدانية، كما فعلت إسرائيل عند اغتيال نصر الله، إذ توقعت الردّ مسبقًا واستبقت بعض منصات الإطلاق.
إمداد مستمر بالذخائر من الولايات المتحدة ودول غربية وآسيوية.
اقتصاد قوي قادر على تحمّل أعباء الحروب الطويلة.
غطاء سياسي دولي يحول دون أي مساءلة أو تطبيق فعلي للقوانين الدولية.
وماذا عن العرب؟
في المقابل، تبدو الساحة العربية غارقة في التشرذم. إسرائيل لا تواجه كتلة موحدة، بل دولًا متفرقة يتعامل كل منها منفردًا مع تهديدها، فيما الآخرون يراقبون بصمت أو عجز.
ولكسر هذه المعادلة المختلة، لا بد من خطوات جذرية:
تفعيل العمل الجماعي العربي. فإسرائيل لا تحارب وحدها، بل ضمن منظومة دعم أميركية وغربية متكاملة.
تحديث منظومات التعليم والاستخبارات. فالحرب اليوم ليست عسكرية فقط، بل إلكترونية ومعلوماتية؛ واختراق العدو لم يعد مستحيلًا كما أثبتت بعض العمليات الإيرانية.
إدراك أن المعارك لا تُحسم من الجو وحده. التفوق الجوي الإسرائيلي لا ينفي أن الأرض لا تزال ورقة القوة العربية، خاصة مع التفوق العددي.
إعادة بناء الثقة لدى الشباب العربي، الذين يشكلون جوهر أي نهضة أو مقاومة مستقبلية.
في الخاتمة
ستبقى إسرائيل ماضية في عربدتها ما دام الانقسام العربي قائمًا والدعم الأميركي ثابتًا. أما العودة إلى "طورها"، فلن تكون إلا حين تواجه جبهة عربية موحدة تمتلك الإرادة والعقل والتقنية معًا. فالقوة لا تُستعاد بالشعارات، بل بوحدة الموقف، وتوظيف موارد الأمة بما يليق بمكانتها وتاريخها.