ورقة مطوية من كتاب جمهورية أفلاطون
عربي
منذ أسبوع
مشاركة
في لقاء متلفز تسأل المُذيعة ضيفها الممثل السوري علي كريّم (أبو النار) في مسلسل باب الحارة مُعبّرة عن دهشتها من خلال قسمات وجهها: هل المثقف لا دور له في مجتمعاتنا العربية!؟ يُجيب: نعم، لا دور له. ويسألها: ماهي تجليات دور المثقف في واقعنا اليومي المُعاش؟ زياد الرحباني مثلاً كان فناناً عبقرياً، ما التأثير الذي تركه في مجتمعه؟ لا شي، وقد أحسّ زياد بذلك، فقال: بأنّه لا لزوم له. وهذ مؤلم جداً من فنان عبقري.   تُعيد المُذيعة صياغة السؤال مرة أخرى وهي أكثر دهشة: المثقف بما يمثل من مُنتج ثقافيّ من أدب وفنون ليس له دور في مجتمعاتنا!؟ يُجيب: دور المثقف من الأدوار الضرورية في المجتمع، لكن أين تأثير هذا الدور، ماذا فعل طه حسين أو نجيب محفوظ أو زياد الرحباني خلال عقود، وما هو التأثير الذي تركوه؟ لا شيء يا سيدتي. لاحظي كيف نعيش اليوم والمجتمع يذهب من خراب إلى خراب؟ تقول المُذيعة لضيفها مستنكرة: ولو يا أستاذ علي، هل الشاعر السوري الكبير نزار قباني لم يؤثر في الأجيال!؟ يُجيب علي كريّم بما معناه: ما تجليات هذا التأثير وأنت تشاهدين الحال المائل في عموم البلدان العربية، بعضها تفكك في حروب عبثية، وهل حال المرأة العربية اعتدل مع وجود قصائد نزار قباني، هذه المُعادلة مُختلَّة، المثقف يُنتج وأحوال المجتمع في تدهور مُشين، كيف نُفسّر ذلك؟     ليس صعباً فهم ما ذهب إليه الممثل السوري علي كريّم -مع أنه لم يقل كل ما عنده- وهو صاحب خبرة ودراية عالية بشؤون الناس في سورية وعموم البلدان العربية. والقصد بأن "المثقف" أو دعنا، يا سيدي، نستبدل هذه الكلمة التي اهترأت من كثرة الاستعمال بكلمة أخرى، ونقول: صانع المعرفة أو مُنتجها أو لنقل "العارف" ببواطن الأمور. الفيلسوف يُنتج فكراً ووجهات نظر فلسفية، كما الفلاح يُنتج تيناً وزيتوناً، والأديب يُنتج الكثير من الشعر والقصص والروايات والمقالات والمسرحيات والكتب النقدية، كما الحداد يُنتج الكثير من الأزاميل والمطارق والمناجل والفؤوس، والمفكر يُنتج بحوثاً في علوم الاجتماع أو السياسة أو الاقتصاد، يخوض في مفاهيم الدين والعادات والتقاليد والمرأة والجنس، والحرفيّ يُنتج كرسيّ الرئيس في القصر الجمهوري، ويُنتج المقاعد في الحدائق العامة. والآن إلى بيت القصيد، الحرفيّ يستفيد الناس من إنتاجه ولا يمكنها الاستغناء عنه، ولكن ماذا يُنتج المثقف وأين هي بضاعته، وأين "سوق الهلال" الذي يبيع فيه مُنتجه، وهل من زبائن لهذا المُنتج، وما الفائدة المرجوة منه؟ تقول لي: يكفيه أنه يُنتج كتباً. يا سيدي، الكتب مفيدة، ولها جمهورها وتأثيرها، حيث تُقام لها المعارض السنوية ويرافق هذه المعارض فعاليات متعددة من مختلف الفنون يُرافقها إلقاء مُحاضرات نوعية يحضرها جمهور قليل، والناس تقرأ الكتب الجديدة والقديمة، صحيح أن نسبتهم قليلة في البلدان العربية، إلا أن الناس تقرأ، خاصة الكتب الدينية. ما علينا، المهم، وكله مهم، العارف يصنع سلطته أو لنقل "سلطة العارف" تنشأ عندما يُظهر تأثيراً واضحاً في مجتمعه، ومن الأمثلة النادرة في هذا الباب أعظم الأدباء الروس ليف تولستوي حيث حمل هذه الصفة، فكانت له هذا التأثير المهم في مجتمعه، ووصل تأثيره حتى إلى بلاط القيصر الروسي. هل من شبيه في عالمنا العربي؟ نعم، فيلسوف معرَّة النعمان المكني بأبي العلاء المعري.   أجمع المؤرخون الذين ترجموا حياة فيلسوف المعرَّة وعصره، أن حادثة سياسية كانت بينه وبين صالح بن مرداس أمير بني كلاب، جرت وقائعها في معرَّة النعمان، سنة ثماني عشرة وأربعمئة من الهجرة، ولم يفصِّلوا الواقعة تفصيلاً تاماً، لاختلافهم في حقيقتها. وقد أشار فيلسوف المعرَّة إليها في أكثر من موضع في لزومياته. بعضهم يقول: إن أهل معرَّة النعمان تمردوا على صالح، فحاصرهم، فلما ضيّق الخناق عليهم شفعوا إليه فيلسوف المعرة فقبل شفاعته. هرع أهل معرَّة النعمان إلى فيلسوفهم، الذي سفه أحلامهم وعاداتهم ومعتقداتهم وخرافاتهم، فتوسلوا به إلى صالح، فخرج إلى ظاهر البلدة. وقيل لصالح: إن باب المدينة قد فتح وخرج منه أعمى يتوكأ على قائد له، فقال صالح: هو أبو العلاء، فدعوا القتال للنظر ماذا يريد؟ ودخل فيلسوف المعرَّة على صالح فأكرمه وشفّعه، واستنشده، فارتجل أبياتاً جاءت في لزومياته: "تغيّبت في منزلي برهة/ ستير العيوب فقيد الحسد/ فلما مضى العمر إلا الأقلّ/ وحُمَّ لروحي فراق الجسد/ بعثت شفيعاً إلى صالح/ وذاك من القوم رأي فسد/ فيسمع مني سجع الحمام/ واسمع منه زئير الأسد". ورد عليه القائد: بل نحن الذين تسمع منا سجع الحمام وأنت الذي نسمع منك زئير الأسد. ثم سأله عن حاجته فأخبره بها، فأصدر أمراً بالانسحاب، وترك معرَّة النعمان لأهلها.  نعم، تراجعت سلطة العسكر أمام سلطة مفكر حرّ، ألمَّ بفكر العرب وثقافتهم، واستمدَّ من تلك الثقافة رموزها الفلسفية، فأنضجها في أتون العقل، وصنع منها مشروعاً حضارياً عملاقاً. وهي بهذا القيد حالة نادرة، أن يتراجع عسكري أمام فيلسوف.

أخبار ذات صلة.

( نوافذ يمنية) محرك بحث إخباري لا يتحمل أي مسؤولية قانونية عن المواد المنشورة فيه لأنها لا تعبر عن رأي الموقع..

جميع الحقوق محفوظة 2025 © نوافذ يمنية