ماريا كورينا ماتشادو.. "سيدة الفولاذ" بحماية نوبل وسط عاصفة فنزويلا
عربي
منذ أسبوع
مشاركة
في خضم تحولات سياسية متسارعة وتحديات إنسانية متفاقمة تشهدها أميركا اللاتينية، وتوتر ملحوظ في منطقة الكاريبي بين واشنطن وكاراكاس، اختارت لجنة نوبل للسلام أن تمنح جائزتها لعام 2025 لشخصية أصبحت "عنواناً للمقاومة المدنية في فنزويلا": ماريا كورينا ماتشادو. وُصفت بأنها "صوت لا يلين" في وجه الاستبداد، وقد اعتبرتها اللجنة رمزاً للشجاعة المدنية، ومنحتها الجائزة "تقديراً لجهودها في تعزيز الحقوق الديمقراطية لشعب فنزويلا، وسعيها من أجل انتقال سلمي وعادل من النظام القائم إلى نظام ديمقراطي". وأضافت اللجنة أن نضالها الطويل "يجسّد نموذجاً للمثابرة في زمن تتعرض فيه الديمقراطية العالمية لضغوط غير مسبوقة". وقال رئيس لجنة الجائزة، يورغن واتني فريدنيس، إن ماتشادو "تُمثّل شريحة واسعة من الفنزويليين الذين يعيشون اليوم تحت ضغوط اقتصادية وأمنية خانقة"، حيث يعيش الملايين في الداخل تحت خط الفقر. جدل حول الجائزة.. وتسييسها أثار منح نوبل لماتشادو جدلاً، في وقت تواصل فيه اللجنة تجاهل شخصيات مثيرة للانقسام مثل دونالد ترامب. ورحّبت واشنطن والاتحاد الأوروبي بمنحها الجائزة، فيما لزمت معظم حكومات أميركا اللاتينية الصمت، مع انقسام داخلي بين احتفاء المعارضة والتشكيك بوصف الجائزة بأنها "مسيسة"، خاصة على خلفية الترشيح الغربي لها لنيلها، من الكونغرس الأميركي والاتحاد الأوروبي. ويُتوقّع تصعيد في كاراكاس ضد ماتشادو، عبر اتهامها بـ"التآمر الخارجي" وتشديد التضييق الأمني. في المقابل، يرى مؤيدوها أن نوبل منحتها درعاً دولية تصعّب استهدافها، وتحوّل أي ملاحقة لها إلى قضية رأي عام عالمي يصعب تجاهلها. ويرى مراقبون أن النظام قد يلجأ إلى تشديد القيود الأمنية والقانونية على ماتشادو، خشية تحوّل الجائزة إلى منصة تعبئة داخلية وخارجية ضدّه. ماريا كورينا ماتشادو من الهندسة إلى السياسة وُلدت ماريا كورينا ماتشادو عام 1967 في كاراكاس لعائلة من الطبقة العليا ذات علاقات اقتصادية واسعة، ما وفر لها دعماً اجتماعياً ومادياً في مسيرتها السياسية. درست الهندسة الصناعية، لكنها انخرطت مبكراً في النشاط السياسي مع تصاعد الاستقطاب بعد وصول هوغو تشافيز إلى السلطة أواخر تسعينيات القرن الماضي. في 2002، ساهمت في تأسيس منظمة "سوماتي" لمراقبة الانتخابات وتعزيز الشفافية، قبل أن تُنتخب عام 2010 في البرلمان معارضةً لتشافيز. أُبعدت في 2014 بعد اتهامها بـ"الخيانة" إثر مشاركتها في اجتماع منظمة الدول الأميركية بصفة "مندوبة بديلة عن بنما" لإلقاء كلمة تنتقد النظام، وهو ما اعتبرته الحكومة تعدياً على السيادة. سيدة الفولاذ.. ليبرالية عنيدة تتبنّى ماتشادو فكراً ليبرالياً محافظاً، يدافع عن اقتصاد السوق والملكية الفردية، وترى في الحرية الاقتصادية شرطاً ضرورياً للحرية السياسية. تُشبَّه كثيراً بمارغريت تاتشر لصلابتها الخطابية، كما تستند في بعض مواقفها الاجتماعية إلى مرجعيات دينية، متأثرة بالبابا يوحنا بولس الثاني. بعد فوزها الكاسح بنسبة 93% في الانتخابات التمهيدية للمعارضة عام 2024، استُبعدت ماتشادو بقرار رسمي من الترشح للرئاسة، ما أثار انتقادات دولية، لكنها دعمت مرشحاً بديلاً، إدموندو غونزاليس أوروتيا، وخاضت إلى جانبه حملة نشطة أسفرت عن مشاركة قياسية في الانتخابات بلغت 69%. ووسط أزمة إنسانية واقتصادية خانقة، ونزوح تقدّر أرقامه بـ8 ملايين، شدّدت ماتشادو على أن الاستقرار يبدأ بإصلاح سياسي واقتصادي متوافق عليه، لا انتقامي. وبعد إعلان فوز نيكولاس مادورو، اندلعت احتجاجات قوبلت بالقمع، وأدّت إلى اعتقالات وضحايا، بحسب منظمات حقوقية. وفي وقت اختار فيه العديد من قادة المعارضة اللجوء إلى الخارج، من بينهم إدموندو غونزاليس أوروتيا (إسبانيا)، ليوبولدو لوبيز (المنفى منذ 2020)، وخوان غوايدو (تنقّل مستمر)، بقيت ماريا كورينا داخل فنزويلا، رغم التضييق الأمني والتهديدات والملاحقات؛ عاشت في الظل، تنقّلت بسرية، وتقلّص ظهورها العلني، بينما اعتُقل عدد من معاونيها. ومع ذلك، ظل خطابها حاضراً، ونشاطها مستمراً، مؤكدة: "أنا مكلّفة بقيادة حركة تحرير.. وهذا بالضبط ما نعتزم فعله". من هنا جاء لقبها "La Dama de Acero" سيدة الفولاذ، بوصفها امرأة لم تكسرها العزلة ولا القمع، بل صارت عند البعض رمزاً للإصرار السياسي في زمن الانكسارات التي عاشها تيارها. تقاطعات فكرية وانتقادات مشروعة تجمع ماتشادو بين الليبرالية الاقتصادية والمحافظة القيمية، وتهاجم الأنظمة اليسارية في أميركا اللاتينية، واصفة إياها بـ"الاستبدادية"، مثل كوبا ونيكاراغوا وفنزويلا، غير أن موقفها من بعض القادة اليمينيين المثيرين للجدل، مثل رئيس السلفادور نجيب بوكيلي، عرّضها لانتقادات تتعلق بازدواجية المعايير. فرغم تصريحاتها عن رفض "أي انتهاك لحقوق الإنسان أياً كانت الجهة التي ترتكبه"، يرى منتقدوها أن خطابها لا يخلو من البراغماتية السياسية، وربما الحسابات الإقليمية في قبول نموذج بوكيلي وغيره من مثيري الجدل. انحياز واضح لإسرائيل تتقاطع ماريا كورينا ماتشادو مع معسكر اليمين الشعبوي في أميركا اللاتينية، لا سيما مع الرئيس الأرجنتيني خافيير ميلي، من حيث الخطاب المنحاز لإسرائيل واستخدامها رمزا لتحالف "ديمقراطي" في مواجهة ما تصفه بـ"الشموليات اليسارية" في الإقليم. وعبّرت ماتشادو في أكثر من مناسبة عن دعمها لإسرائيل، ووصفتها بـ"نموذج الدولة الديمقراطية الصامدة في محيط معادٍ". وفي 2018، كشفت وسائل إعلام عن رسالة وجّهتها إلى رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو تطالبه فيها بـ"الضغط الدولي لتفكيك نظام مادورو"، إلى جانب رسالة مماثلة للرئيس الأرجنتيني آنذاك، ماوريسيو ماكري. ودعت الرسالة إلى تفعيل مبدأ "مسؤولية الحماية"، ووصفت النظام الفنزويلي بأنه "تحالف مافيوي يهدد أمن المنطقة". واعتبر خصومها أن هذه الرسائل دعوة ضمنية لتدخل خارجي، فيما أكدت هي أنها تندرج ضمن الوسائل القانونية للضغط الدولي السلمي. ورغم أن تأييدها لإسرائيل لا يأخذ طابع التحالف الأيديولوجي الصريح كما في حالة ميلي، إلا أن خطابها يتقاطع معه في الدفاع عن الديمقراطيات الغربية، ومهاجمة المحور الإقليمي الذي يضم كوبا ونيكاراغوا وفنزويلا. يُرجّح أن تتبنى ماتشادو في حال وصلت إلى الحكم، سياسة خارجية مشابهة لنهج ميلي، بما في ذلك تعميق العلاقات مع تل أبيب، وربما دعم مبادرات مثل اتفاقيات إسحاق، بل وحتى نقل السفارة الفنزويلية إلى القدس، على غرار "النموذج الترامبي" الذي بات يجد صدى لدى عدد من الحكومات اليمينية في الإقليم. بين الاعتراف الدولي والتوتر الإقليمي إلى ذلك، لاقى منح ماتشادو جائزة نوبل ترحيباً واسعاً من أنصارها، باعتباره تتويجاً لمسيرة كفاح طويلة، في حين رآه آخرون إشارة سياسية واضحة في سياق الضغط الدولي المتصاعد على نظام مادورو، إذ تأتي الجائزة في وقت يشهد فيه الكاريبي تعزيزاً للوجود العسكري الأميركي، ما زاد المخاوف من احتمالات التصعيد. وفي ظل هذا المشهد، دعا الرئيس الكولومبي غوستافو بيترو إلى وساطة قطرية "لتخفيف التوتر" بين واشنطن وكاراكاس. أما لجنة نوبل، فقد أكدت أن منح الجائزة لا يرتبط بموقف سياسي، بل يُجسّد دعماً لنضال سلمي طويل من أجل الديمقراطية، وأن ماتشادو تمثّل "قيم الشجاعة والمثابرة والإيمان بالإصلاح السلمي". ما بعد الجائزة: بين الأمل والمجهول ماريا كورينا ماتشادو ليست مجرد زعيمة معارضة عند أنصارها، بل تحوّلت إلى حالة رمزية تعبّر عن طموح فئة واسعة من الفنزويليين بتغيير حقيقي. يجمع خطابها بين نقد الواقع والسعي إلى بناء نظام مؤسساتي قائم على الحرية والمساءلة واقتصاد السوق، وترفض ما تسميه "عسكرة المجتمع"، بعد توتر العلاقات بواشنطن. لكن التحدي الأكبر يبقى في تحويل هذا الطموح إلى واقع في بلد يعاني من أزمات مركّبة: انهيار اقتصادي، ونزوح جماعي، واستقطاب سياسي حاد. ربما لا تحمل نوبل في حد ذاتها تغييراً سياسياً مباشراً، لكنها تمنح ماتشادو منصة أوسع، وتجعل من صوتها معركة لا يمكن تجاهلها بسهولة، حتى في وجه نظام لا يعترف بالمعارضة. والسؤال المفتوح: إلى أي مدى يمكن لصوت واحد، مهما كان صلباً، أن يصمد أمام عاصفة وطن بأكمله؟

أخبار ذات صلة.

( نوافذ يمنية) محرك بحث إخباري لا يتحمل أي مسؤولية قانونية عن المواد المنشورة فيه لأنها لا تعبر عن رأي الموقع..

جميع الحقوق محفوظة 2025 © نوافذ يمنية