عربي
بعد سريان وقف إطلاق النار في قطاع غزة المنكوب ظهر اليوم الجمعة، راح آلاف الفلسطينيين يتدفّقون إلى الشمال بلهفة، للتحقّق ممّا تبقّى من منازلهم، وسط قلق وترقّب لمزيد من الصعاب. وكانت معاناة أهالي قطاع غزة مع النزوح قد بدأت في الأيام الأولى من الحرب الإسرائيلية التي انطلقت في السابع من أكتوبر/ تشرين الأول 2023، عندما راح الاحتلال الإسرائيلي يصدر أوامر إخلاء لسكان المنطقة الشمالية، دافعاً سكانها إلى التوجّه صوب جنوب وادي غزة، زاعماً أنّ الوسط والجنوب "آمنان"، وهو أمر لم يتطّلب وقتاً طويلاً ليثبت زيفه مع تهجير آلة الحرب الإسرائيلية الفلسطينيين في كلّ أنحاء القطاع. وقد دفع ذلك أكثر من جهة أممية ودولية، مرّات عدّة، إلى التحذير من أنّ "لا مكان آمناً في قطاع غزة".
وهكذا، عرف أهالي قطاع غزة بمعظمهم النزوح مرّات ومرّات، وقد خسر كثيرون منهم بيوتهم وأملاكهم وأرضهم واضطرّوا إلى البحث عن ملاجئ ومراكز إيواء وسكنوا في الخيام، فيما حوّلت آلة الحرب الإسرائيلية القطاع بمعظمه إلى مساحات شاسعة من الحطام وتسبّبت في كارثة إنسانية غير مسبوقة. لكنّ كلّ ذلك لم يحل دون اندفاع الفلسطينيين، لا سيّما المهجّرين من الشمال، إلى التوجّه سيراً على الأقدام إلى منطقتهم، التي سبق للاحتلال أن عزلها عن بقية أنحاء قطاع غزة خلال الحرب الأخيرة، والتي شهدت الدمار الأكبر. يُذكر أنّ المنطقة الشمالية من قطاع غزة تتألّف من محافظة شمال غزة وكذلك من محافظة غزة التي تشمل المدينة التي تحمل الاسم نفسه والتي أُعلنت المجاعة فيها أخيراً، فيما تتألّف المنطقة الجنوبية من محافظة خانيونس ومحافظة رفح، والوسط من محافظة دير البلح.
على الرغم من الاحتفالات التي قامت بعد اتفاق وقف إطلاق النار ثمّ الإعلان عن سريانه، يدرك فلسطينيون كثيرون تماماً أنّه لم يتبقَّ لهم من الحياة التي كانوا يعيشونها قبل الحرب، أي قبل أكثر من عامَين، إلا القليل. في هذا الإطار، تتساءل بلقيس، أمّ لخمسة أطفال من مدينة غزة وقد نزحت إلى دير البلح: "ماذا بعد" الحرب التي انتهت؟ وتشير إلى أنّ "ما في دار أرجع لها"، فبيتها تحوّل ركاماً. تضيف المرأة الفلسطينية لوكالة رويترز: "دمّروا كلّ شيء، عشرات آلاف الناس استشهدوا، وكل قطاع غزة صار ركاماً. وعملوا وقف إطلاق نار". ثمّ تتسأل مرّة أخرى: "هل هذا يعني لازم انبسط؟ لا مش مبسوطة أنا".
من جهته، يبدو مصطفى إبراهيم، الناشط والمدافع عن حقوق الإنسان من مدينة غزة، موافقاً لرأي بلقيس. هو نزح بدوره إلى محافظة دير البلح التي تُعَدّ واحدة من المناطق القليلة في قطاع غزة التي لم تجتحها قوات الاحتلال الإسرائيلي وتسوّيها بالأرض. يقول: "غابت الضحكات ونضب البكاء. لا آمال ولا أحلام. هروب من الذكريات والماضي القريب"، مشيراً إلى أنّ "أهل غزة هائمون كما لو أنّهم موتى يتحرّكون بحثاً عن مستقبل بعيد".
وكانت أعداد من أهالي مدينة غزة قد همّت بالعودة فعلاً، حتى قبل دخول وقف إطلاق النار حيّز التنفيذ اليوم، وثمّة من وصل إلى حيّ الشيخ رضوان شمال غربي مدينة غزة. من بين هؤلاء إسماعيل زايدة، أب لثلاثة أطفال، أراد تفقّد منزله صباح اليوم الجمعة، ودُهش عندما اكتشف أنّه ما زال "سليماً"، إنّما وسط "بحر من الأنقاض". ويقول لوكالة رويترز إنّ منزله ما زال واقفاً، لكنّ المكان كلّه دمار؛ البيوت في حيّه مدمّرة وكذلك الأمر بالنسبة إلى مربّعات سكنية بكاملها.
بالنسبة إلى بعض من سكان مدينة غزة، فإنّ العودة حتى إلى بقايا منازلهم السابقة ترضيهم. ويخبر مهدي ساق الله وكالة رويترز، فيما يقف إلى جانب خيمة في وسط قطاع غزة: "فرحنا عندما سمعنا خبر الهدنة، وقف إطلاق نار. فرحنا كثيراً واستعددنا لنرجع إلى (مدينة) غزة، إلى بيوتنا". يضيف: "ما فيش (لا توجد) بيوت بالتأكيد، (هي) مهدّمة، لكنّ فرحتنا أن نرجع إلى مواقع بيوتنا فوق الدمار"، إذ بالنسبة إليه هذه "برضو (كذلك) فرحة كبيرة".
(رويترز، العربي الجديد)