
عربي
مع دخول المرحلة الأولى من اتفاق غزة بموجب خطة دونالد ترامب حيّز التنفيذ، ينتظر أن يتم البدء سريعاً في مفاوضات المرحلة الثانية، التي تُعدّ بنظر كثر الأكثر تعقيداً، لا سيما أنها ستتناول القضايا الجوهرية المرتبطة بمستقبل غزة، من الانسحاب الإسرائيلي الكامل ونزع سلاح المقاومة إلى شكل الحكم في "اليوم التالي" للحرب. وبموجب خطة ترامب، فإن المرحلة الأولى، التي تشمل إعادة تموضع القوات الإسرائيلية والإفراج عن الأسرى الإسرائيليين مقابل الإفراج عن مئات الأسرى الفلسطينيين وإدخال المساعدات، تضمن تلقائياً الدخول في مفاوضات المرحلة الثانية من اتفاق غزة التي ستناقش ملفات الانسحاب الإسرائيلي الكامل وسلاح المقاومة وإبعاد قادة حركة حماس ومصير الحركة إلى جانب شكل الحكم في اليوم التالي لحرب الإبادة، وإعادة الإعمار. علماً أن قضية جوهرية أخرى وهي قيام دولة فلسطينية، غابت حتى عن خطة ترامب نفسها، إذ تكرر الدول العربية التي تدعم الخطة، أنها يجب أن تؤدي في نهاية المطاف إلى دولة فلسطينية مستقلة في سياق حل الدولتين، وهو ما يقول رئيس حكومة الاحتلال بنيامين نتنياهو إنه لن يحدث أبداً.
وتعتبر هذه الملفات صعبة ويخشى أن تطيل المرحلة الثانية من المفاوضات، فيما ترتقب الصيغ التي سيقدمها الوسطاء في محاولة الوصول إلى مقاربات تنهي الحرب بشكل نهائي وتقطع الطريق على محاولات التعطيل الإسرائيلية المتوقعة. وبينما تركز الاهتمام في المرحلة الأولى من اتفاق غزة على تبادل الأسرى، في مفاوضات شاركت فيها قطر ومصر وتركيا إلى جانب الولايات المتحدة، فإن الاهتمام بالمرحلة الثانية يأخذ طابعاً أكثر توسعاً على الساحة الدولية، بما يعكس مدى الانخراط الدولي بمرحلة ما بعد الحرب. انعكس ذلك بالاجتماع الوزاري في باريس، أمس الخميس، والذي دعا إليه الجانب الفرنسي لمناقشة ترتيبات الأوضاع في قطاع غزة، على ضوء التطورات الإيجابية الأخيرة في مفاوضات شرم الشيخ المصرية. وشارك في الاجتماع وزراء خارجية وكبار مسؤولي كل من فرنسا وإيطاليا وبريطانيا وألمانيا وإسبانيا ومصر والسعودية والأردن وقطر والإمارات وإندونيسيا وتركيا الاتحاد الأوروبي فيما بقيت مشاركة وزير الخارجية الأميركي مارك روبيو غير محسومة حتى اللحظة الأخيرة بعد تسريبات عن ضغوط إسرائيلية للامتناع عن الحضور.
فجوات باقية
ونصت خطة ترامب على تولي "مجلس سلام" يديره بنفسه، بالإضافة إلى تشكيل إدارة دولية برئاسة رئيس الحكومة البريطاني الأسبق توني بلير لإدارة شؤون القطاع إلى جانب مجلس حكم محلي، وإن بدا التوجه العربي والإسلامي لشكل "اليوم التالي"، يشدد على ضرورة الحضور العربي. يصر الجانب الإسرائيلي على عدم وجود أي دور لـ"حماس" في حكم القطاع الذي تديره منذ 2007. وبينما أبدت الحركة استعدادها أكثر من مرة لتسليم الحكم، تطالب "حماس" والفصائل الفلسطينية بأن يحكم الفلسطينيون نفسهم بأنفسهم، وأن يشكَّل مجلس وطني فلسطيني مستقل لإدارة القطاع، وترفض كذلك أي دور لبلير أو أي حكم أجنبي لغزة.
أما بشأن الانسحاب الإسرائيلي، فقد كشف مصدران مطلعان على المحادثات لـ"رويترز"، أمس، أن "حماس" تسعى لضمانات بانسحاب كامل للقوات الإسرائيلية. بالمقابل يكرر قادة الاحتلال الحديث عن استمرار السيطرة الأمنية وملاحقة القيادات والمسؤولين في حركة حماس أو الأجهزة المحسوبة عليها، ما يعني أنه سيبقي سيطرته النارية على القطاع. كما يتوقف مراقبون عند احتمال تكرار السيناريو القائم في الحالة اللبنانية حيث لم توقف إسرائيل اعتداءاتها منذ توقيع اتفاق وقف الأعمال العدائية في 27 نوفمبر/تشرين الثاني 2024، وسط مخاوف من أن يتخذ نمطاً مشابها لكن بشكل أوسع مما هو عليه في لبنان، بحيث يقدم الاحتلال الإسرائيلي على تنفيذ عمليات اغتيال لقيادات في المقاومة.
كذلك ترفض الحركة حتى الآن مناقشة مطلب الاحتلال بأن تتخلى عن أسلحتها "ما دام الاحتلال قائماً". وترفض "حماس" بشكل قاطع إبعاد أي من قادتها أو نزع السلاح، وتعتبره من الملفات ذات الخطوط الحمراء، فيما تقبل بوضع السلاح لهدنة طويلة الأمد وتقديم كامل الضمانات خلال الفترة الحالية. في حين تتمسك تل أبيب بصيغة خطة ترامب التي عدلت بعيدا عن تلك التي تم التوافق عليها مع القادة العرب والمسلمين في نيويورك أوخر شهر سبتمبر/أيلول الماضي على هامش أعمال الجمعية العامة للأمم المتحدة، لتنص على نزع وليس "وضع" سلاح "حماس" والفصائل الفلسطينية وإبعاد قادتها ممن يختارون الإبعاد والسماح لآخرين بالبقاء في غزة ممن "يلتزمون التعايش سلمياً".
وأمام هذه الملفات الصعبة يخشى الفلسطينيون ألا يتحقق كامل الانسحاب الإسرائيلي وأن يبقى الاحتلال متحكماً في الكثير من المناطق بطريقة تجعله قادراً على تنفيذ عمليات عسكرية خاطفة متى أراد ذلك. بالتوازي مع ذلك، فإن نتنياهو سيبحث عن إرضاء حلفائه في الائتلاف الحكومي، لا سيما الوزيرين إيتمار بن غفير وبتسئليل سموتريتش اللذان يطالبان بالقضاء على حركة حماس في أعقاب استلام الأسرى الإسرائيليين.
تشعّب المرحلة الثانية من اتفاق غزة
في هذا الصدد رأى الكاتب والباحث في الشأن السياسي، ساري عرابي، أنه حتى الآن يصعب تكوين رؤية واضحة أو قناعات نهائية بشأن المرحلة الثانية من اتفاق غزة. وأوضح لـ"العربي الجديد"، أن "حركة حماس لم تُبدِ موافقتها على شروط هذه المرحلة في ردّها على المقترح الأميركي، بل أحالت هذه القضايا إلى موقف وطني جامع، باعتبارها قضايا فلسطينية عامة لا تخص الحركة وحدها، بل تتجاوز حدود قطاع غزة في تداعياتها". من بين أبرز الإشكاليات في هذه المرحلة، وفق عرابي، فكرة "الوصاية الدولية" على غزة، مشيراً إلى أن بعض شروط المرحلة الثانية غير مقبولة مبدئياً "ليس فقط بالنسبة لحركة حماس، بل حتى للسلطة الفلسطينية، فضلاً عن الدول العربية والإسلامية الكبرى التي انخرطت في جهود الوساطة، وعلى رأسها مصر وتركيا وقطر".
ساري عرابي: حماس تجاوبت فقط مع الجزء الذي لا يتعارض مع مبادئها
وفي رأيه فإن "المرحلة الثانية من اتفاق غزة تُعد الأخطر، سواء من حيث احتمال استناد الاحتلال إليها لاستئناف حرب الإبادة، أو من حيث انعكاساتها العميقة على مجمل القضية الفلسطينية"، معتبراً أن "فرض مثل هذه الشروط في ظرف كهذا يعكس اختلال موازين القوى والدعم الأميركي المطلق لإسرائيل، في وقت يواجه فيه الفلسطينيون في القطاع العدوان وحدهم، وتتحمل المقاومة الفلسطينية عبء المواجهة منفردة". ورأى عرابي أن "حركة حماس تعاملت مع المقترح الأميركي بذكاء سياسي، إذ فككت بنوده إلى مراحل"، وذلك في محاولة لتحويله من "كمين سياسي" يستهدف المقاومة والغزيين إلى فرصة لوقف الإبادة والعدوان، وتثبيت أن جوهر المشكلة يكمن في الاحتلال وليس في الموقف الفلسطيني.
وبيّن عرابي أن "حماس تجاوبت فقط مع الجزء الذي لا يتعارض مع مبادئها، والمتعلق بـتبادل الأسرى، ووقف الحرب، وانسحاب قوات الاحتلال من غزة"، معتبراً أن "هذا التعاطي وفّر فرصة لتخفيف الاندفاع العسكرية الإسرائيلية ومنع عزل المقاومة عن الحاضنة العربية والإسلامية". من جهة أخرى لفت إلى أن الحركة "أعطت رداً ضمنياً بشأن إدارة غزة في المرحلة اللاحقة، عبر تأكيدها أن اللجنة التي ستتولى إدارة القطاع ستكون لجنة تكنوقراط فلسطينية، وهو ما يعني رفضها لأي صيغة وصاية دولية أو ترتيبات تمسّ القرار الوطني الفلسطيني". من جانبه، قال المختص والباحث في الشأن الإسرائيلي، محمد هلسة، إنه "من المبكر الحديث أن ما جرى هو انتهاء للحرب بشكل نهائي في غزة"، مشيراً لـ"العربي الجديد"، إلى أن ما حصل "هو وقف مؤقت لوقف إطلاق النار في القطاع". وأضاف أن "نتنياهو يريد أن يتعامل مع الكثير من الملفات التي تنتظر المرحلة الثانية بما يحقق أهدافه السياسية ويمنع الذهاب نحو انتخابات مبكرة على مستوى الائتلاف الحكومي".
محمد هلسة: لاحتلال سيعزز التجربة اللبنانية في غزة وهو السيناريو الأكثر احتمالية
الحديث عن إمكانية انسحاب إسرائيلي كامل من القطاع، وفق هلسة، غير وارد "إذ إن التجربة في لبنان وسورية توحي بأن الإسرائيليين لا ينسحبون من أي مكان تحت ذرائع أمنية"، لافتاً إلى أن "الاحتلال سيعزز التجربة اللبنانية في غزة وهو السيناريو الأكثر احتمالية عبر عمليات مركزة من الجو أو خاطفة في بعض الأماكن لقواته دون تكلفة بشرية كبيرة مشابهة للحرب في شكلها السابق".
من جهة أخرى لم يستبعد هلسة فرص تجدد الحرب رغم اتفاق غزة الحالي، وذلك بشكل مستحدث تعمل المنظومة الأمنية والعسكرية الإسرائيلية على صياغته مع المستوى السياسي بشكل يخفض التكلفة أمام الجبهة الداخلية أو حتى أمام المجتمع الدولي. ورجح أن "بعض الملفات مثل السلاح أو إبعاد قادة حماس قد تصل إلى صيغة مرضية، إلا أن الأمر مرتبط بمدى تقبل نتنياهو لهذا الأمر وتمسكه بصيغة ترامب الأصلية التي رفضتها حركة حماس". وأكد هلسة أن "المرحلة الثانية ليست بالبسيطة وسيعمل نتنياهو مع ترامب على وضع الكثير من التفاصيل فيها"، لافتاً إلى أن "نتنياهو يرى أن الصفقة في المرحلة الأولى تنهي دور حركة حماس، وبالتالي ليس لديها أي صلاحيات في إدخال أي تعديلات في المرحلة الثانية". واعتبر أن "أحد الأهداف التي قد يبحث عنها نتنياهو لضمان عدم تفكك ائتلافه الحكومي، هو الذهاب نحو التطبيع مع الدول العربية والسعي إلى تحسين صورة إسرائيل التي تضررت بفعل حرب الإبادة على مدار العامين الماضيين".
أحمد الطناني: قد يبقى الاحتلال في غزة نتيجة صعوبة قياس مدى تحقق هدف "نزع سلاح غزة" أو تحديده
المشكلة الأساسية في الحديث عن المرحلة الثانية من اتفاق غزة تكمن في أنها مرتبطة بالترتيبات بعيدة المدى الخاصة بمستقبل القطاع، بحسب مدير مركز عروبة للأبحاث والدراسات الاستراتيجية، أحمد الطناني، والذي أوضح لـ"العربي الجديد"، أن "الربط بين إجراءات الانسحاب الإسرائيلي وفتح المجال أمام خطط إعادة الإعمار يظل مشروطاً بتحقيق ترتيبات تراها إسرائيل متناسبة مع اشتراطاتها الأمنية، وضمان استمرار هيمنتها على القطاع". وأضاف أنه "كلما تيقّن الاحتلال من أن القوة الأمنية التي ستُكلّف بإدارة القطاع، سواء كانت عربية أو دولية أو ذات امتداد محلي، تعمل وفقاً للرؤية الإسرائيلية التي تقوم على نزع سلاح الفصائل وتفكيك البنية التحتية للمقاومة، فإن ذلك سيقابله انسحاب تدريجي من جانب إسرائيل". وبحسب الطناني فإن هذا الانسحاب قد يتحوّل إلى وجودٍ شبه دائم، نتيجة صعوبة قياس مدى تحقق هدف "نزع سلاح غزة" أو تحديده، خصوصاً أن هذا المفهوم نفسه غير قابل للقياس أو التعريف بدقة.
وأشار إلى أن "هذا الطرح يفترض قبول فصائل المقاومة بمبدأ نزع السلاح، وهو ما ترفضه الفصائل رفضاً قاطعاً، ومن المرجّح أن تستمر في رفضه مستقبلاً، مؤكداً على أن "جميع القضايا المرتبطة بالمرحلة الثانية تُعد في جوهرها قضايا اليوم التالي، والتي رحّلتها حركة حماس للنقاش في إطار وطني شامل". وفي رأيه فإن "التوصل إلى اتفاق فلسطيني داخلي، ومن ثم التفاوض مع الاحتلال عبر الوسطاء بشأن هذه الترتيبات، سيكون مساراً طويلاً وشاقاً، ما يجعل الانتقال من المرحلة الأولى إلى مرحلة أوسع وأكثر استقراراً أمراً محفوفاً بالصعوبات وضعيف الاحتمال".
