
عربي
بعد الوصول إلى اتفاق يُؤمل أن ينهي الحرب غير المسبوقة على قطاع غزّة، يصعد السؤال: كيف نرى المشهد وما سيؤول إليه؟ إذا تحقَّق وقف العدوان الإسرائيلي وانسحب جيش الاحتلال من القطاع، تكون حركة حماس (وحركات المقاومة) قد تمسَّكت بصون الحقوق العامة أولاً، وقبِلت أن يكون التنازل في ساحتها هو بالخروج من الحكم والإدارة وإعادة صياغة وجودها حركة مقاومة، ما يعيدنا إلى المربَّع الأول، وإلى المطلب الأساس قبل "طوفان الأقصى"، منذ تعاظمت قوة الحركة تسليحاً وتنظيماً وتعبئة، ثمّ إمساكاً بإدارة حياة ما يزيد عن مليوني فلسطيني، وبالقضية الفلسطينية إجمالاً، حين أفضى الالتفاف الشعبي حولها إلى اكتسابها (إلى جانب صفة المقاومة) موقع المسؤول، بعدما فازت بـ74 من 132 مقعداً في انتخابات المجلس التشريعي (2006)، وترأس الراحل إسماعيل هنية رئاسة الحكومة الفلسطينية.
عملت "حماس" في الجمع بين صفتيها المقاومة والحاكمة، ولم تكن محتاجةً لكي تظلّ مقاومةً إلى دعم دولي كما كانت وهي تتحمَّل مسؤولية الحكم وأعباءه. ولم يتسنَّ لها هذا الدور من دون الانسجام مع السند الدولي الذي تأسّست السلطة الفلسطينية بموجبه، وهو اتفاقية أوسلو (1993)، القائمة على "اعتراف منظّمة التحرير الفلسطينية بإسرائيل، ونبذ العنف"، مع أن الحركة قدَّمت ما تستطيع تقديمه من مواقف سياسية، هدفت إلى إظهار اعتدالها، واستعدادها إلى التكيُّف مع الحلِّ المطروح، والمسعى الفلسطيني الرسمي في الدولة الفلسطينية في حدود 1967، ولكن من دون أن تعلن اعترافاً صريحاً بإسرائيل، أو استعداداً للتخلّي عن المقاومة والسلاح. واليوم، يبدو أن الأوضاع تسير نحو "التصويب" باشتراط الرئيس الفلسطيني محمود عبّاس الموافقة على التزامات منظّمة التحرير والسلطة للمشاركة في أيِّ انتخاباتٍ سياسية مقبلة.
ومع أن أضراراً كبيرة لحقت ببنية "حماس"، في الجانب العسكري، وعلى مستوى بنيتها الحاكمة ومؤسّساتها، إلا أننا لا نستطيع القول إنها لم تعد طرفاً فلسطينياً يُحسَب حسابُه، ويمكن شطبه. فلا تزال تتقوى بمبرِّر وجودها نظرياً (حقوقياً على الأقلّ) لأن السبب الذي قامت من أجله، وتغذَّت أطروحاتها منه، لا يزال ماثلاً، وهو الاحتلال، ليس بسيطرته الخارجية على قطاع غزّة فحسب، ولكن في الضفة الغربية والقدس، مهد الدولة الفلسطينية المنشودة.
إن إخراج "حماس" من المشهد كان هدفاً لا تعارضه دول عربية فاعلة، هذا إن لم تكن تريده
ولا تزال "حماس" (وسائر حركات المقاومة) تستمدّ شرعيةً من شعبية فكرة "المقاومة". هذه الفكرة لم تُستأصَل، ولم تُهدَم مع تهدّم بنيان غزّة، ولم تُزهَق مع إزهاق حياة ألوف الغزيِّين. صحيحٌ أن نظراً عميقاً ينتاب فكرة المقاومة، لكنّه يأتي على تجليَّاتها أزيد ممّا ينال منها. وصحيحٌ أن إنهاكاً كبيراً نال من بنية الحركة العسكرية ومن قدراتها، لكنّ غياب تعادل القوة، أو حتى تقاربها، لا يمنع من تجدُّدها ولو بعد حين، ولو بأشكالٍ مختلفة، كما لا يزال يحدث في الضفة الغربية.
ومع ذلك، أسفرت مواجهة العامين في قطاع غزّة عن عناصر حاكمة، تتجاوز تكوين "حماس" العقدي والقتالي إلى بيئة محيطة غير مساندة، بل مناهضة، سواء أكان ذلك في البيئة الدولية أم العربية والإقليمية. فقد وقفت أميركا بجدّية بالغة في جانب إسرائيل عسكرياً ومالياً وسياسياً، ولم ترقَ الدول العربية إلى موقف فعلي مؤثّر، وكذلك دول إقليمية أخرى، ولم تعتبر إيران هذه الحرب حربها، وإن وقعت مواجهة بينها وبين دولة الاحتلال بتداعيات هذه الحرب، وعلى خلفية مشروعها النووي. هذه الملابسات المحيطة مكَّنت إسرائيل من الانفراد بغزّة وأهلها، ومع تكبُّد جيشها خسائر، إلا أنه بقي قادراً بفضل فائض التفوُّق المادي على تجريف الحياة في غزّة. ولأطراف عربية وفلسطينية أن تضاعف هجمتها على حركة حماس، وتحمِّلها المسؤولية عمَّا لحق بالقطاع، ولكن تلك الأطراف لا تستطيع أن تطمس حقيقة عجزها، أو نتيجة افتقاد الرغبة والإرادة، حين سمحت بتفرّد الاحتلال الهمجي بالفلسطينيين من دون أن تتقدّم بخطوات عملية تخرق الحصار المُحكَم على غزّة، أو بإظهار جدّية تأتي على علاقاتها بإسرائيل.
لا يزال نتنياهو وحلفاؤه يرفضون أيَّ شكل من أشكال الدولة الفلسطينية مهما تأهَّلت السلطة الفلسطينية لقيادته
هذا يسمح بالقول إن إخراج "حماس" من المشهد كان هدفاً لا تعارضه دول عربية فاعلة، هذا إن لم تكن تريده. ذلك أن السياسة العربية الرسمية، بشكل عام، تنصاع للشروط الدولية ولا تقوى على الخروج عليها، فما دام أن الحركة لم تنجح في كسب الشرعية الدولية، وبقيت على ما هي عليه من توسُّل المقاومة سبيلاً للأهداف، ولو كانت الأهداف والوسائل مشروعةً وفق القانون الدولي، فذلك لا يكفي لتحدّي الإدارة الأميركية. وعليه، ما تمخَّضت عنه المفاوضات حول خطة الرئيس الأميركي دونالد ترامب من تنازلات لا تؤشِّر إلى حجم "حماس" وإمكاناتها فقط، وإنما أيضاً تترجم الحالتين العربية والإسلامية، في الوقت الراهن، وما تستطيع أن تبلغه. فمن المعلوم أن صعيد النزاع أكبر من الصراع بين "حماس" وإسرائيل. فهذه الأخيرة بقيادة بنيامين نتنياهو لا تخفي نيَّاتها بإرجاع القضية الفلسطينية خطوة إلى الوراء، بوضع العراقيل والاشتراطات التي قد تكون تعجيزيةً أمام عودة السلطة الفلسطينية إلى حكم غزّة، بعد تنحِّي "حماس"، فلا يزال نتنياهو يلوّح تارةً بذريعة إصلاح السلطة، وتارةً بحاجات إسرائيل الأمنية.
ولا يزال نتنياهو وحلفاؤه يرفضون أيَّ شكل من أشكال الدولة الفلسطينية مهما تأهَّلت السلطة الفلسطينية لقيادتها. وهذه الحالة من التعالي الاحتلالي والانفراد بمصير الفلسطينيين هي التي قادت إلى "طوفان الأقصى". وبعد خروج "حماس"، تسقط ذرائع إسرائيل بالتوازي مع تغييب خيار الضغط فلسطينياً، لتنفرد الأدوات السياسية والديبلوماسية، وليتعاظم التعويل على الموقف الأميركي، بالتوازي مع الجهود العربية والفلسطينية الرسمية الضاغطة، نحو حلٍّ قابل للتحقُّق.
