
عربي
كلّما سمعتُ من يردّد أن نظام الأسد استهدف السُّنّة (لأنهم سنّة) في سورية، خصوصاً عندما يوصف هذا النظام بأنه "علوي – نصيري"، بما تختزنه كلمة "نصيري" من تحريض مذهبي، أتذكّر أن هذا القول، والفهم المُبسَّط للصراع في سورية، يصبّ الزيت على النار، ويحوّل الصراع دينياً مذهبياً، ويؤجّج نزعة الانتقام ويبرّرها، ويعود بنا قروناً، فيزيد من الانقسام المجتمعي، في حين أن سورية بأمسّ الحاجة إلى الوحدة وتجاوز انقسامات سنوات الحرب. وهذا موضوع يحتاج إلى فحص وتدقيق، مع فهم ظروف الحرب وسعي النظام (بدفع من إيران) إلى جعله صراعاً مذهبياً.
ذكّرني بهذا الأمر ما قاله الشيخ صهيب الشامي في لقائه مع "التلفزيون العربي"، إن حلب المدينة كانت تضمّ حين تولّيه مديرية أوقافها سنة 1982 نحو 315 مسجداً، وعند انتهاء تكليفه بعد 23 عاماً (2005)، كان في حلب 760 مسجد. ثمّ قرأت نقلاً عن جدارية لوزارة الأوقاف السورية، نُشرت في الشهر الماضي (سبتمبر/ أيلول)، أن إجمالي عدد المساجد في سورية اليوم بلغ 13759، بينما كان عددهاعام 1970 ثلاثة آلاف فقط، أي بُني في عهدي الأسدَين خلال 50 عاماً نحو خمسة أضعاف ما بني منذ دخول الإسلام إلى سورية، وحتى ذلك التاريخ. فكيف يستقيم هذا مع ذاك؟ فلو استهدف الأسد السُّنّة لأنهم سنُّة، كما يتردّد، لما سمح ببناء هذا العدد الكبير من المساجد، والمسجد نقطة تجمّع وتعبئة وتحشيد.
نعم، يوجد شخصيات علوية كوّنت ثرواتٍ وتمتّعت بوجاهة اجتماعية كبيرة، ولكن نصيب معظم العلويين بقي مشابهاً لنصيب معظم الفئات الفقيرة في سورية. واليوم هرب بشّار الأسد، وهرب جميع أعضاء النخبة الحاكمة، من العلويين وغير العلويين، وظلّ العلوي الفقير يتحمّل وزر جرائم أولئك. في الواقع، كان الأسد يهتم بتثبيت سلطته وبمنع أي تهديد لها من أيّ مصدر كان، وأخطر المصادر هي الانقلابات العسكرية. لذا احتفظ بالسلاح والجيش وجهاز الأمن لأنها أدوات الاحتفاظ بالسلطة، وقد حرص أن يكون غالبية ضبّاط الجيش والأمن من العلويين الموالين له. ولم يكن ليتسامح مع من يعارض سلطته بأيّ شكل، ولم يتوانَ عن اعتقال جميع المعارضين العلويين والمسيحيين والدروز والإسماعيليين والكرد والشركس والأرمن، إضافة إلى السُّنّة العرب.
تركت المؤسّسة الدينية السلطة والسياسة واتجهت للتركيز في المجتمع، وقد ساعدها في ذلك الفراغ الذي أحدثه تراجع الفكرين القومي واليساري في العالم ومحلّياً
إذا حلّلنا تركيب مؤسّسات الدولة والمجتمع من وزارات وقطاع الأعمال والنقابات وحتى أجهزة الأمن والجيش، فإن غالبية الأفراد ينتمون عدديا إلى الطائفة السنُّية، وبفارق كبير، وهذا انعكاسٌ طبيعيٌّ لأنهم الكتلة الرئيسة من السوريين، بينما يشكّل العلويون نحو 12% فقط. وبالطبع، خصّ الأسد زبانيته المقرّبين من الطوائف كافّة بامتيازاتٍ كثيرة. كان يعلم أنه استولى على السلطة في لحظةٍ سادت فيها القيم القومية والاجتماعية واليسارية، وأن المجتمع السوري، بحكم التاريخ، وبحكم أن السُّنّة العرب هم المكوّن الأكبر من الشعب، وأن أجزاء كبيرة منهم لا تتقبّل رئيس غير سنّي بغضّ النظر عمّن هو هذا الرئيس، ولهم امتدادات إقليمية واسعة، ويمكن أن يحصلوا على دعم كبير فيما لو تمرّدوا عليه مهدّدين سلطته، ويمكن توظيف أنه غير سنّي للتحريض على سلطته... لهذا كلّه، سعى الأسد إلى تحييد السُّنّة واسترضائهم، تحت شرط القبول بسلطته. ولكن، عندما حملت "الطليعة المقاتلة" السلاح ضدّ سلطته، استعمل العنف المفرط ضدّهم، وضدّ كل من تعاطف معهم. وقد سمح الأسد بالنشاطات والجمعيات والتنظيمات الدينية التي لا تعادي سلطته صراحة.
من جهة أخرى، ولأن نظام البعث - الأسد منع السياسة، وهو الأمر الذي فعله جمال عبد الناصر وصدّام حسين ومعمّر القذّاقي وهواري بومدين وغيرهم من قادة ديكتاتوريين، أصبح المسجد والحلقة الدينية المكان الوحيد الذي يمكن فيه التعبئة ضدّ السلطة أيّاً كانت. وقد اصطدم من ذكرناهم من رؤساء بتنظيمات الإسلام السياسي التي قامت بنشاطات معادية ضدّ سلطاتهم، فمارسوا القمع نفسه ضدها. وتفسير تزايد أعداد المساجد بهذا الشكل الكبير في عهد الأسد، وهو يعلم أن المسجد نقطة التقاء ومكان للتحشيد والتعبئة، يكمن في الاتفاق الضمني الذي أبرمه الأسد مع المؤسّسة الدينية السُّنية بعد الصدام الذي جرى مع "الطليعة المقاتلة"، التي رفعت السلاح في وجه سلطته بدعم من صدّام حسين والأردن والسعودية ومصر والسودان، واستخدامه العنف المفرط لقمع ذاك "التمرّد"، الذي انتهى بمجزرة حماة (فبراير/ شباط 1982)، وأرادها حافظ الأسد آنذاك رسالةً إلى المدن السورية الأخرى. في المقابل، أرادها نوعاً من مراضاة السُّنّة، فقام ذاك الاتفاق غير المكتوب مع المؤسّسة الدينية السُّنية، بأن يطلق لها حرية النشاط المجتمعي، على أن تكفّ عن دعم أيّ نشاط يستهدف سلطة الأسد: "ليْ السلطة كلّها، ولكم المجتمع"، فتساهل مع نشاطهم المجتمعي إلى أبعد حدّ، مع استمرار رقابة أجهزته الأمنية، وقبلت المؤسّسة الدينية السُّنية هذا الاتفاق الضمني، وبدأت النشاط المجتمعي بكثافة شكلاً من أشكال التعبير المعارض غير العُنفي، وترجم ذلك في بناء هذا العدد الكبير من المساجد ونشوء تنظيم القبيسيات ومجمّع النور وإبراز عدة مشايخ، مثل محمد سعيد البوطي والمفتي أحمد حسون وصهيب الشامي وغيرهم.
المشكلة ليست في دين الحاكم ومذهبه، بل في طبيعة النظام السياسي الاستبدادي
معنى ذلك أن المؤسّسة الدينية تركت السلطة والسياسة واتجهت للتركيز في المجتمع (احتلال المجتمع وفق تعبير غرامشي)، وقد ساعدهم في ذلك الفراغ الذي أحدثه تراجع الفكرين القومي واليساري في العالم ومحلّياً، واتساع موجة التديّن في المنطقة منذ ثمانينيّات القرن الماضي تعبيراً ضمنياً عن معارضة السلطة أيضاً. ولعبت دوائر في الولايات المتحدة دوراً مباشراً في تشجيع هذه الموجة لمواجهة الفكرين القومي والاشتراكي، وبديلاً منهما، ثمّ عبر نشاطاتها المباشرة لتجنيد مقاتلين إسلاميين للحرب في أفغانستان ضدّ الوجود السوفيتي فيها. ثمّ أثرت مناخات الصراع العالمي بعد 11 سبتمبر (2001)، والحرب الأميركية على "الإرهاب"، ثمّ جاء غزو العراق وتحوّلت سورية معبراً ومكانَ تدريب واستراحات للمقاتلين الإسلاميين ضدّ الغزو الأميركي... لعب ذلك كله أدواراً في جعل المجتمع السوري محتقناً عشية انفجار الصراع في مارس/ آذار 2011، ومنقسماً بين غالبية تزداد فقراً، وتعود أجزاء واسعة من شبابها إلى المحافظة وممارسة الطقوس والشعائر الدينية، وتوجه ليبرالي تحت تأثير بقايا الفكر القومي اليساري، وتأثيرات الانفتاح على العالم الذي أنتجته القنوات الفضائية، ثمّ وسائل التواصل الاجتماعي والإنترنت والهواتف المحمولة. وبالمناسبة، رغم توجّه الأسد ضدّ أي نشاط للإسلام السياسي في سورية، وقمعه بعنف مفرط، فقد ربطته علاقات وثيقة بتنظيمات الإخوان المسلمين والتنظيمات الإسلامية الأخرى في البلدان العربية وغير العربية، وطالما كانت هذه التنظيمات تمتدح نظام الأسد قبل 2011.
استهدف بشار الأسد، في سنوات الحرب السورية 2011 – 2024، المناطق التي خرجت للتظاهر ضدّه، وكانت هذه بعض مناطق العرب السُّنّة الذين حملوا السلاح ردّاً على العنف المفرط للنظام ضدّ المتظاهرين السلميّين وارتكاب جرائم كثيرة، وقد بقيت مناطق عرب سنة أخرى واسعة لم تشارك في التظاهر، وبقيت أقرب إلى النظام ولم يمسّها الأسد بأي سوء. وبالطبع شاركت مدن السويداء وسلمية وجزء من المناطق الكردية في التظاهر في المراحل الأولى، كما شاركت أعداد من المسيحيين، ولكن المناطق التي شاركت بقوة في الحرب ضدّ نظام الأسد، وتعرّضت لأبشع أنواع العنف والقتل والتدمير والتهجير، هي مناطق العرب السُّنّة. وقد لعب تدخّل إيران، والدفع بالصراع إلى أن يأخذ طابعاً مذهبياً، دوره في تحوّل طبيعة الثورة السورية والقوى المشاركة فيها، فتراجعت شعارات الحرية ووحدة الشعب السوري، وتقدّمت شعارات ورايات ذات صبغة دينية مذهبية.
الحاكم هو الحاكم، وثلّة الحكّام في أيّ دولة هم بضع عشرات يعضدهم بضع مئات من أنصارهم
الخلاصة أن المشكلة ليست في دين الحاكم ومذهبه، بل في طبيعة النظام السياسي الاستبدادي. وفي النظام الديمقراطي ستكون السلطة بحكم الواقع بيد الأغلبيات الكبرى في أي بلاد، والنظام الديمقراطي هو القادر على تخفيف الاحتقانات، المذهبي والطائفي والقومي، ويعزّز فرز السوريين وفق برامج سياسية واقتصادية واجتماعية. ثمّة وهمٌ لدى غالبية أعضاء أي مذهب أو دين أو قومية بأن طائفته (أو مذهبه) هي الحاكم، إذا كان الحاكم أو الرئيس يدين بدينه أو بمذهبه. فإن كان الرئيس علويّاً، ويقرّب علويين منه لحمايته، نتوهّم أن العلويين هم الحكّام، وأن جميع العلويين شركاء في السلطة. وإن كان الرئيس سنّياً، نتوهم أن السُّنّة هم الحكام وجميعهم شركاء في السلطة، بينما لا ينال فقراء العلويين أو السُّنّة، أو غيرهم من الفقراء، أي منافع تُذكر، وهم، رغم افتراق أديانهم ومذاهبهم وقومياتهم، سواسية في الفقر والمعاناة، ومصالحهم واحدة في وجه من يستلب منهم مداخيلهم.
في النهاية، الحاكم هو الحاكم، وثلّة الحكّام في أيّ دولة هم بضع عشرات يعضدهم بضع مئات من أنصارهم ويستخدمون جموع الفقراء وأصحاب الدخل المحدود، وهم الأغلبية الكبرى من أبناء طائفتهم أو مذهبهم ومن طوائف أخرى لتثبيت سلطتهم. المصلحة الحقيقية هي مصلحة غالبية أبناء الشعب من المذاهب والأديان والقوميات كافّة في أن يتآخوا ويتقبّلوا ويحترم بعضهم عقيدة بعضهم الآخر في وجه فئات الحكّام الصغيرة، التي تسعى إلى امتلاك السلطة والثروة على حساب جموع الشعب، "فيا فقراء الشعوب اتّحدوا".
