
عربي
يتنامى قطاع التعليم العالي على نحو متصاعد، بالنظر إلى ازدياد اندفاع ملايين الطلاب الذين يحصلون على الشهادة الثانوية العامة بفروعها العلمية والأدبية، أو في مجال العلوم التقنية (المهنية) لحيازة شهادة جامعية. بعض الطلاب لا يجدون في جامعات المنطقة ما يلبّي رغباتهم بالتخصص الذي يطمحون لدراسته، فيعمدون إلى السفر خارج دولهم بدافع القيود التي تضعها معدلاتهم، أو للحصول على دراسات أكاديمية حديثة تحاكي لغة العصر، ولمتابعة دراساتهم العليا في جامعات ودول توفر لهم ما يفتقدونه في بلدانهم.
لكن التنامي في عدد مؤسسات التعليم العالي لا يعني أن هدفها جميعاً هو سد ثغرات في مجال دورها التنموي. إذ إن ما يحدث لا علاقة له بالتعليم العالي واقتصاد المعرفة، بقدر ما له علاقة باقتصاد المنفعة، بعدما بات التعليم بمثابة استثمار هدفه تحقيق أرباح على حساب النوعية المطلوبة التي تقدم بقاعات المحاضرات والمختبرات. فهناك ما يشبه التورّم المرضي على هذا الصعيد، بعدما باتت الجامعات، وخصوصاً تلك المستحدثة من دون توفير الشروط الأكاديمية، مجرد "بوتيكات" تبيع الشهادات لمن يرغب من الطلاب.
والفضائح التي شهدها العديد من الدول العربية غيض من فيض الغش وتزوير الشهادات التي تُمنح لمن يستطيع دفع الرسوم والرشاوى. وبينما يُفترض بالجامعات تطوير ذاتها ووضع معايير صارمة تتلاءم مع مقومات اقتصاد المعرفة، نجد أن ما يحدث هو اقتصاد اللامعرفة، إذ إن مَن يحصل على شهادة جامعية دون المؤهلات المطلوبة، يساهم مع المؤسسة التي حصل منها على شهادته في إعادة إنتاج التخلف والزبائنية على مستوى الأفراد والمجتمع.
وبينما تحرص الجامعات العريقة على حيازة الاعتمادات اللازمة في شتى التخصصات، باعتبارها معايير عالية على صعيد جودة ما تقدمه لطلابها وخرّيجيها، وما يتمتع به أساتذتها من أبحاث منشورة ومساهمات في سائر المجالات، نجد معظم الجامعات المستحدثة تلجأ إلى زيادة ربحيّتها من خلال التعاقد مع أساتذة لا يحملون درجة الدكتوراه، كما أنها تفتقر إلى مقومات البنية الأكاديمية اللازمة، من مكتبات ومختبرات وقاعات ملائمة، فضلاً عن المستلزمات التكنولوجية الحديثة من شبكات إنترنت وحواسيب وغيرها.
ولتعظيم أرباحها حصرت تلك المؤسسات عملها بالاختصاصات الرائجة، وأقفلت أو لم تفتتح أصلاً الأقسام ذات الإقبال المنخفض لدى الطلاب، أو تلك التي تؤهل للعمل الوظيفي في التدريس النظري والأدبي، بينما التوجه نحو الاختصاص في عالم المال والأعمال والكومبيوتر والطب والهندسة. وعليه، فقد انقرضت إلى حد ما فروع الفلسفة وعلم النفس والاجتماع والآداب والتاريخ والآثار والفنون والجغرافيا واللغة العربية.
لكن التحديث الشكلي لا يعني أن نشاط هذه الجامعات يهدف إلى تدريس اقتصاد المعرفة المرتبط بالعالم الرقمي، وبالتالي باقتصاد العولمة ارتباطاً عضويّاً، فالطالب الذي يدخل إلى الجامعة من أجل التحصيل العلمي الأكاديمي، يدخل في حلقة مترابطة مع التوجهات العالمية، كما أن خارج اهتمامها تنمية الموارد البشرية، وحثها على الإبداع، وبالتالي إنتاج الأبحاث اللازمة في خدمة تطوّر المجتمع وتقدمه. بينما ما يحدث هو العكس تماماً، فالكتب المقرّرة مسروقة، أو لا ينتجها أعضاء هيئة التدريس، والأبحاث الميدانية مفقودة. ما يعني أن هناك مساهمة ملموسة في اقتصاد التجهيل عبر استعادة ثقافة الاستهلاك ممّا يرد من مجتمعات دفعت غالياً من أجل الوصول إلى ما وصلت إليه.
(باحث وأكاديمي)
