على رصيف الضواحي الفرنسية.. الفقر الذي يتنفس غضباً
عربي
منذ أسبوع
مشاركة
قبل شروق الشمس، يغادر كريم شقته الصغيرة في حي سان دوني، شمال باريس، يتسلّل بين الأزقة الرمادية نحو محطة المترو، يتقاسم الممر مع عمال النظافة ومقدّمي الوجبات السريعة، قبل أن يختفي بين عربات القطار المكتظة. يقول لزميله مبتسما: "أحيانا أشعر بأني أعيش في المترو أكثر من بيتي". كريم واحد من آلاف الوجوه التي تختصر "فرنسا الأخرى"، فرنسا "بونليو" أو الضواحي، وبلغة الساسة "الأحياء ذات الأولوية"، حيث يتعايش الأمل مع الغضب، والكدح مع الشعور بالخذلان. الضواحي دول مصغرة الأحياء المعروفة بالضواحي لم تعد مجرّد أحياء سكنية، بل تحوّلت إلى ما يشبه "جمهوريات داخل الجمهورية". فيها تتعايش مشكلات الاقتصاد والسكن والتعليم والصحة، في تواز مع عزلة اجتماعية عميقة، إذ أشار التقرير السنوي للمرصد الوطني للسياسة الحضرية الفرنسي (هيئة حكومية فرنسية تتابع أوضاع أحياء الضواحي وتحليل السياسات الاجتماعية والاقتصادية الخاصة بها)، الصادر المنجز ما بين 2015 و2023 والمنشور في يونيو/حزيران 2025، إلى أن الأحياء التي تُسمى "ذات الأولوية" في إطار السياسات الحضرية بؤرة للصعوبات الاجتماعية، لا سيما في ما يتعلق بالتوظيف. وأشار التقرير إلى أن معدل البطالة في هذه الأحياء بلغ 18.3% مقابل 7.5% في أحياء المدن الأخرى، وبالتالي، فإن معدل البطالة أعلى بمقدار 2.4 مرة في الأحياء المحرومة. وأوضح تقرير المرصد أن العمال الشباب الذين تقل أعمارهم عن 30 عاما يتأثرون بشكل خاص، حيث يقترب معدل بطالتهم من 26%، بينما يبلغ 13.5% في الأحياء الأخرى. وعزا التقرير ارتفاع معدل البطالة في الأحياء ذات الأولوية بشكل خاص لكون السكان غالبا ما يكونون أقل تعليما وأصغر سنا من غيرهم. وحتى مع تكافؤ التحصيل التعليمي، يواجه سكان هذه المناطق صعوبة أكبر في العثور على عمل، إذ تشير الأرقام إلى أن 25% من غير حاملي أي شهادة سواء جامعية أو مهنية في الأحياء المحرومة عاطلون من العمل، بينما يعاني 11.1% من حاملي الشهادات الجامعية من البطالة. ويتأثر الأشخاص من أصل أجنبي، وهم أكثرية في هذه الأحياء، بشكل خاص بالبطالة، إذ يصل معدل البطالة إلى 21.7% بين أحفاد المهاجرين، مقارنة بـ17.9% بين المولودين في الخارج و15.9% بين من ليس لديهم خلفية مهاجرة. ونبّه التقرير إلى أنه غالبا ما تقلّ فرص المهاجرين في بناء شبكة اجتماعية للبحث عن عمل. كما يواجه الأجانب غير الأوروبيين حظرا على خمسة ملايين وظيفة في القطاعين العام والخاص. ويواجه الوافدون الجدد إلى فرنسا، مثل أبنائهم، تمييزا في التوظيف، وهو ما تتجلى آثاره بانتظام في عمليات الاختبار. وأكد المعهد الوطني للإحصاء والدراسات الاقتصادية الفرنسي في تقريره الصادر في يناير/كانون الثاني 2024 أن نصف سكان الأحياء ذات الأولوية يعيشون على أقل من 1213 يورو شهريا (للفرد الواحد بعد اقتطاع المزايا الاجتماعية والضرائب)، مقارنة بـ1900 يورو لسكان بقية المناطق الحضرية التي تضم حيا ذا أولوية، ما يعني أن دخلهم الشهري أقل بمقدار 687 يورو، أي بفارق 36%، وأشار إلى أن 45% من سكان الأحياء ذات الأولوية يعيشون تحت خط الفقر، في حين يبلغ الدخل الشهري في الضواحي الثرية، مثل "نويي سور سين"، أكثر من 5500 يورو. المسافة بين الحيين لا تتجاوز سبعة كيلومترات، لكنها في الواقع تفصل بين عالمين متناقضين، واحد ينام على رخام الثراء، وآخر على إسمنت الحاجة. التمييز يبدأ من العنوان التمييز في فرنسا لا يقتصر على العرق أو الجنس، بل يمتد إلى الرمز البريدي. في الضواحي، يتحول العنوان إلى سيرة ذاتية تقرأ قبل أن يتكلم صاحبها، هذا ما عبّر عنه أحد شبان الضواحي في تعليق على تغريدة في منصة إكس "كل يوم أرسل سيرتي الذاتية. أول ما يقرأون العنوان: Grigny 91 (غريني 91)، لا أتلقى جوابا. كأن العنوان جريمة". تعليق يختصر عقودا من التمييز المكاني. فوفق منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية في تقريرها الصادر يوم 20 يوليو/تموز 2018، أشارت إلى انخفاض فرص التوظيف بنسبة 25% لمن يعيش في ضاحية فقيرة، حتى عند تساوي المؤهلات. ليتحول الرمز البريدي إلى حكم مسبق في فرنسا، يُحاسب المواطن على المكان قبل الكفاءة، وعلى الاسم قبل الخبرة. بين الجدران المتهالكة تتكاثر الأزمات البيوت في الضواحي ليست مجرد مساكن، بل شواهد على الإهمال. فالرطوبة والعفن والازدحام ليست تفاصيل معمارية، بل معالم للفقر نفسه. ففي السابع من أكتوبر/تشرين الأول نقلت قناة TF1 الحكومية تقريرا عن السيدة فلورا، التي قالت بصوت يشوبه الحزن "ابني يمرض كل شتاء بسبب الرطوبة، نحن نعيش في سكن غير صحي منذ عامين"، القناة وصفت فلورا بالمكافحة، وهنا يبرز تقرير وزارة الانتقال الإيكولوجي الفرنسية الصادر في التاسع من سبتمبر/أيلول 2023، الذي كشف أن 16% من المساكن في الأحياء الفقيرة متدهورة هيكليا، مقابل 5% فقط في الأحياء الثرية. وفي تقرير المرصد الوطني للسياسة الحضرية الفرنسي عبّر 7% فقط من سكان الضواحي عن رضاهم عن حالتهم الصحية، مقابل 21% في الأحياء الراقية. فالبيت في "بانليو" ليس جدرانا فحسب، بل انعكاس لحالة إنسانية هشّة، الجدران المتشققة تساوي التعب نفسه الذي يكسو الوجوه. العمل بلا أمان وحياة بلا استقرار في "بانليو"، عقود العمل قصيرة مثل فترات الهدوء بين احتجاجين. العمال يعرفون أن الوظيفة المؤقتة قد تختفي في أي لحظة، لكنهم يتمسكون بها كما يتمسك الغريق بلوح خشب. فغالبية من يعملون لا عقود لديهم، وهذا ما وثقه تقرير المعهد الوطني للإحصاء الفرنسي الصادر في يناير/كانون الثاني 2024، إذ أشار إلى وجود 23% من العاملين في الأحياء ذات الأولوية يحملون عقودا مؤقتة، وبالتالي هؤلاء لا يملكون ترف التخطيط للمستقبل، فالحياة نفسها مؤقتة. في الصباح يوقّعون عقودا قصيرة، وفي المساء يحسبون كم تبقّى من الشهر، لا من العمر. المدرسة تفقد قدرتها على إنقاذ المستقبل في الضواحي، التعليم لم يعد طريقا للنجاة، بل مرآة للفوارق الطبقية نفسها. المدرسة التي كانت يوما أداة للترقي الاجتماعي تحولت إلى غرفة انتظار طويلة للفشل الجماعي. فتقرير وزارة التربية الوطنية الفرنسية الصادر يوم 12 سبتمبر/أيلول 2023 أظهر أن معدلات النجاح في شهادة التعليم الثانوي في الضواحي يقل بنحو 17 نقطة مئوية عن المعدل الوطني. ففي حين تبلغ نسبة النجاح في الضواحي الثرية 92% لا تتجاوز 75% في مناطق مثل سان دوني وكليشي سو بوا. أما المرصد الوطني للسياسة الحضرية فقد خصّص تقريرا تربويا موسعا بعنوان "ملف التعليم"، نُشر في يونيو/حزيران 2025، بيّن فيه أن نسبة التسرب المدرسي في "الأحياء ذات الأولوية" لدرجة الأمية بلغت 13%. ويرى التقرير أن الفقر الأسري يلعب الدور الأبرز في التسرب، فكثير من العائلات لا تستطيع تغطية مستلزمات الدراسة أو مصاريف النقل. كما يربط التقرير الظاهرة بالاكتظاظ في الفصول الدراسية ونقص الكوادر التربوية المؤهلة، حيث يضطر المعلم للإشراف على أعداد تفوق قدرته التربوية. الواقع الفرنسي يبرهن على أن منح أبناء الضواحي فرص الرعاية نفسها التي تُمنح لأبناء الأحياء الثرية يمكن أن يصنع الفرق. فمن هذه المناطق خرج زين الدين زيدان، من لا كاستيلان في مرسيليا، وكيليان مبابي من بوندي، شمال باريس، وهما مثالان حيّان على أن الإنجاز لا يرتبط بالجغرافيا بل بالفرصة. فعندما تمتد يد الدولة بالتعليم والرياضة والثقة، يتحول الهامش إلى بطولة، ويصبح أبناء "بانليو" مصدر فخر لا مصدر قلق. عندما يتحول الفرح إلى غضب كل هذه التراكمات انعكست على الحياة العامة، فالاحتفالات في الضواحي ليست دائما فرحا صافيا. ففي كل مناسبة وطنية أو كروية، يتسلل الغضب إلى المشهد، ويترجم الفقر إلى حوادث عنف واشتباكات. في 15 يوليو/تموز 2018، فازت فرنسا بكأس العالم. وحسب تقرير وزارة الداخلية الفرنسية الصادر يوم 19 يوليو/تموز 2018، تحولت بعض الاحتفالات في الضواحي إلى أعمال شغب ونهب، أسفرت عن أكثر من 300 حادثة وخسائر بلغت 13 مليون يورو. وفي 19 يوليو 2019، احتفلت الجالية الجزائرية بفوز الجزائر بكأس أفريقيا، وتطور الأمر لأعمال شغب. وأفادت وقتها تقارير إعلامية عن توقيف أكثر من 200 شخص وتسجيل خسائر مادية تتجاوز المليون يورو. وبعد ثلاث سنوات، في 18 ديسمبر/كانون الأول 2022، خلال تأهل منتخب المغرب إلى نصف نهائي كأس العالم، شهدت باريس ومرسيليا وليون اشتباكات عنيفة أسفرت عن تحطيم سيارات وواجهات محلات وخسائر مادية. فكل مناسبة جماعية عند حدود الضواحي تتحول إلى اختبار أمني، وكل احتفال جماهيري يتحوّل إلى نشرة أرقام للخسائر. السترات الصفراء.. الغضب نفسه بلون آخر ما جرى في الضواحي وجد صدى له في الشوارع الفرنسية خلال حركة السترات الصفراء، فالغضب في المدن الكبرى والضواحي وجهان لعملة واحدة: رفض التفاوت واللامساواة. ففي مايو/أيار 2018، اندلعت الحركة احتجاجا على ارتفاع الأسعار والسياسات التقشفية في ما عرف باحتجاج "السترات الصفراء". ووفق اتحاد شركات التأمين الفرنسية في تقريره الصادر يوم 28 يونيو/حزيران 2023، بلغت الخسائر المادية لأعمال الشغب 730 مليون يورو في أنحاء البلاد، مع 15600 مطالبة تأمين. وفي السادس من مايو 2022، طالبت بلدية باريس الدولة بتعويض قيمته 1.4 مليون يورو عن الأضرار التي لحقت بالممتلكات العامة. حين يعمل الطفل قبل أن يحلم في "البانليو"، الطفولة قصيرة والعمر المهني يبدأ باكرا. العمل المبكر لم يعد خيارًا بل ضرورة للبقاء. تغريدة لأحد الأساتذة على منصة إكس يرمز لاسمه بـ"Banlieuedeprof" كتب فيها "كنت في المترو مع أحد طلابي. قلت له مازحا: عندما تعمل ستشتري سيارة. فأجاب مبتسما: سيدي، أنا أعمل بالفعل كل عطلة نهاية أسبوع وفي كل الإجازات"، تغريدة اختصرت معضلة جيلٍ يعمل قبل أن يعيش. هؤلاء الشباب لا يعانون من البطالة بقدر ما يعانون من غياب الأفق، هم يعملون، لكن لا يصعدون. يكدحون، لكن لا يملكون. الحياة عندهم سباق بلا خط نهاية. فالضواحي اليوم يعيش فيها الفرنسي من أصول أفريقية من شمالها وغربها وشرقها جنبا إلى جنب، موحّدين بالمعاناة ذاتها أكثر من الأصل ذاته. وحين تُمنح الفرص، تتحول الطاقات الكامنة إلى نجاحات، وتستعيد الثقافة والتعليم والرياضة دورها الطبيعي باعتبارها جسوراً للعدالة. بين نويي الغنية وسان دوني المتعبة سبعة كيلومترات فقط، لكنها تكفي لترسم حدود جمهورية منقسمة إلى نصفين، نصف يحتفل، والآخر يختنق في صمته. وفي كل صباح، تخرج الضواحي إلى العمل وهي تهمس لفرنسا بصوت متعب: "نحن نبني.. بمقابل لا يكفي".

أخبار ذات صلة.

( نوافذ يمنية) محرك بحث إخباري لا يتحمل أي مسؤولية قانونية عن المواد المنشورة فيه لأنها لا تعبر عن رأي الموقع..

جميع الحقوق محفوظة 2025 © نوافذ يمنية