قصيدة غزة.. آخر أنفاس الشارع
عربي
منذ أسبوع
مشاركة
كم من حبر يلزم كي يكتب المرء قطرة دم؟ وكيف للكلمات أن تواجه العدم وآلة القتل الجهنمية؟ سؤالان لم يفارقاً، ربّما، الشعراء الغزّيين طيلة سنتين من حرب الإبادة المفتوحة؛ لكنّهم مع ذلك كتبوا. كتبوا من عمق المأساة، مدفوعين بنداء الضرورة، حيث لا مسافة بين الصرخة والموت. فجاءت قصائدهم إمّا صيحة غضب في وجه العالم، أو تذكّراً ورثاءً وتأمّلاً في هشاشة الوجود؛ وإمّا عدّاً للخسارات، ومنهم من وثّق وشهد فكان الشاهد الشهيد، ومن تشكّك في جدوى الشعر وحقّ الشاعر أن يكتب، سالماً، وشعبه يباد.  فتسأل هند جودة في قصيدتها الواردة في "أنطولوجيا: غزّة، أهناك حياة بعد الموت؟" (دار الرافدين، 2025): "ماذا يعني أن تكون شاعراً في زمن الحرب؟"، وتجيب: "هذا يعني أن تعتذرْ/ أن تكثرَ من الاعتذارِ/ للأشجارِ المحترقة/ للعصافيرِ التي بلا أعشاشٍ (...)/ يعني أن تخجلَ/ من ابتسامتِكَ/ من دفئِكَ/ من ثيابِكَ النظيفة (...)/ ومن المصادفة بأنكَ ما زلتَ حياً!". في الحرب، وأمام موت الآخرين، تصير كلّ مظاهر الحياة اليومية البسيطة امتيازاً يستدعي الخجل، ويغدو الاعتذار صيغة وحيدة للتضامن. ولذا تتوسّل الشاعرة: "يا إلهي، لا أريدُ أن أكونَ شاعرة في زمنِ الحربْ". أمّا الشاعر ناصر رباح، فيتأمّل في ديوانه: "الحرب لا تنتهي" (وزارة الثقافة الفلسطينية، 2025)، الحربَ بوصفها تجربة وجودية قصوى لا يُغتالُ فيها البشر، وتدمّر البيوت، وتحرق الأشجار فحسب، بل "ينتحر الوقت"، وتغدو "الساعة فسحة ما بين بناية عانقتها القذيفة، وأخرى تفتح صدرها للشهيق الأخير...". لا يرى الشاعر في الحرب حدثاً أو واقعة، بل حالة كونية تُبطل الزمن، وتحوّل اليوم إلى مسافة بين انفجارين، "حيث يقاس الوقت بالشهداء". فالإبادة تمتدّ لتمحو المعنى والتاريخ معاً، فلا يبقى سوى الصمت والعدم عالقَين خارج الزمان. وأمام هول ما رأى وعاين، يقول الشّاعر الشاهد: "حين أعود من الحرب -إن عدت- لا تنظروا في عيوني، لا تشاهدوا ما رأيت"، ذلك أن العين التي شهدت ما لا يحتمل باتت مرآة للرعب، وصارت الرؤية لعنة. فمن رأى الحرب فقد براءته إلى الأبد. حين أعود من الحرب، لا تنظروا في عيوني، لا تشاهدوا ما رأيت   وتدفع قسوة الحرب الشاعر وليد الهليس في "أنطولوجيا غزّة: أهناك حياة قبل الموت؟"، إلى التماهي مع "حجر قديم، بلا بيت"، لا يحزن أو يفرح لفرط ما عاش من أهوال، كأنّما بلغ الدمار أشدّ الأشياء صلابة. لكنّ الحجر ينهض فجأة وقد استبدّت به الرغبة في صعود الجبل، "حاملاً في اليد مشعلاً"، ليرتفع فوق المأساة، ويشهر الضوء في وجه العتمة. وفي نصّ وجيز أشبه بوصيّة تختصر تجربة الغزّي مع الموت، وفي الأنطولوجيا نفسها، يخاطب الشاعر نور حجّاج، الذي استشهد في ديسمبر/ كانون الأول 2023، العالم بلغة مباشرة: "لا تكترثوا للمشهد الأخير/ إنْ كان حرقاً أو غرقاً أو قفزاً من علوّ أو طعناً/ في غزّة نحن نموت عدة مرات قبل هذا". هنا، يطلب الشاعر من العالَم، وبهدوء من اختبر الموت غير مرّة، ألّا ينشغل بنهاية الأجساد، فيسرد عليه سلسلة من أشكال الموت تحت القصف، كما لو كانت قائمة احتمالات لنهاية تتجاوز الحدث البيولوجي، متتالية من الانكسارات اليومية التي تسبق الموت الأخير.  ويشدّد الشّاعر الغزي على رفض اختزال المأساة في أرقام مجردة وتوثيقٍ رسمي بارد يُغيّب فيه الإنسان، كما يفعل حيدر الغزالي "غزّة تروي إبادتها: قصص وشهادات" (مؤسسة الدراسات الفلسطينية، 2024): "سيأتي موظف الإحصاء/ يكشف عن الشوارع والبيوت/ وبقلم جاف/ يسجل خسائرنا/ ويرحل/ دون أن يرى قلبي/ سيأتي موظّف الإحصاء/ يكشف عن/ الشوارع والبيوت/ ويتركني أعدّ خسائري/ على كفّين/ بلا أصابع". فرغم البتر الجسدي، يتولى الشّاعر بنفسه عدّ الخسارات، مصرّاً على أن ينتزع من قبضة النسيان ما لا يحفظه التاريخ الرسميّ، و"ما لا يراه موظّف الإحصاء". وهكذا، يواصل الشعراء الغزيّون الكتابة على حافة الفناء، كيلا يسقط "الإنسان" وينهار المعنى تحت سيل العواجل الإخبارية.

أخبار ذات صلة.

( نوافذ يمنية) محرك بحث إخباري لا يتحمل أي مسؤولية قانونية عن المواد المنشورة فيه لأنها لا تعبر عن رأي الموقع..

جميع الحقوق محفوظة 2025 © نوافذ يمنية