
عربي
انتحاران كبيران أقدم عليهما الفلسطينيون منذ النكبة، الأول كان "أوسلو" (1993)، والثاني "7 أكتوبر" (2023)، وقادهما اثنان من أكبر زعمائهم عبر تاريخهم، ياسر عرفات ويحيى السنوار. ولم يكن ثمّة خيار لكليهما، ودعك من منظّري الهزيمة أو رافعي شعارات التخوين والتفريط في مناسبةٍ أو من دونها.
كان "أوسلو" رهاناً وإكراهاً (و"7 أكتوبر" كذلك)، خطا عرفات نحوه بعدما ضاقت الخيارات، فلم تعد قواته في أيٍّ من دول الطوق، بل في تونس البعيدة، والسلاح يصدأ في المخازن وعلى أكتاف الرجال الذين أصبحوا يتردّدون إلى المقاهي في المنافي، ويبحثون عن بعثاتٍ جامعية للأبناء، وكانت فلسطين تبتعد يوماً بعد آخر. لا العرب معنيون كما يُفترَض، ولا إسرائيل ترغب ما دامت قوية، وكان على آخر الأساطير الفلسطينية أن يبحث عن متّسع خزائن في الذكرى لثياب الكاكي إن ظلّ هناك، وأن يُترك لمحمود درويش أن يكتب المراثي في شعب يقوده البحر أبعد فأبعد عن القدس، كلّما ظنّ أنه يقترب. كان ذلك استعارة، حصاناً تاه في طريق المطار، في زمن إف- 16 وترسانة إسرائيل التي تتضخّم، فماذا يفعل؟
يكثر اللوّامون الآن، لكنّ الرجل الذي نجا طويلاً كان يعرف أنه يسير بقدميه إلى الفخّ أخيراً. كان ذكياً بغريزته، وكان يعرف، لكنّه الرهان الأخير، أن يرمي بآخر الأوراق على الطاولة لعلّها تقوده إلى الدولة. كانت تستحوذ عليه تلك الرغبة القاهرة (والباطشة) في أن يضع قدمه ولو مرّة واحدةً على تراب القدس، وأن يصلّي هناك. ربّما كانت أريحا البداية. كان ذلك فخّاً، انتحاراً، ربّما يقود إلى شيءٍ ما، لكنّه انتهى محاصراً وهو في ثياب الكاكي التي لم يتخلّ عنها، وسلاحه على الطاولة، في انتظارهم: شهيداً، شهيداً، شهيداً.
وكان لا بدّ من استعاراتٍ كبرى، وثلاث جنائز، ليحافظ الفلسطينيون على حلمهم الذي تبدّد، ورهانهم على طاولة المفاوضات وقد انقلب ضدّهم. في غزّة، هناك، كان ثمّة من يراقب ويقول بغضب كان عليه ألا يلقي السلاح، وعلينا أن نبدأ من بداياته لا نهايته التراجيدية.
لكن العودة إلى البدايات للوصول إلى نهايات مختلفة لم يكن إلا رهاناً آخر، فقد يؤدّي تحريك حجر واحد في رقعة الشطرنج إلى نتائج مختلفة. ... كانت الذروة في "7 أكتوبر"، ولم يكن السنوار (كما عرفات) غبياً أو ساذجاً، فقد كان يعرف أن "طوفان الأقصى" رهانٌ كبير قد ينقلب على الفلسطينيين، لكنّه أيضاً قد يغيّر قواعد اللعبة، وهو ما حدث جزئياً. فللمرّة الأولى أصبحت إسرائيل قابلةً للهزيمة، لكن الوجه الآخر للرهان كان هو الانتحار، ولم يكن الرجل الأقرب إلى عرفات في معسكر معارضيه ساذجاً، بل يكاد يكون عبقرياً، فعلينا أن ندفع الأمور إلى حدودها القصوى على أمل الوصول إلى الحدّ الأدنى من الحقوق. ومثل عرفات، انتهى السنوار بثياب المقاتلين بعد أن حاربهم بآخر قطعة خشبية توفّرت لديه، ومثله كان وحيداً وهو يحدّق في عتمة هذا الصراع الذي يبدو بلا نهاية أبداً.
تندرج الكتابة هنا في سياق الاستعارات لا التحليل، فأيّ تحليل بلا معنى عندما يتعلّق الأمر بهذا الصراع: كل شعوب الأرض تحرّرت بالسلم أو بالحرب. كل الصراعات انتهت بقناعة القوي بأن يتراجع وبالضعيف بأن ينتصر بشكل أو بآخر، إلا في الحالة الفلسطينية، فأيّ تحليلٍ يمكنه أن يفسّر، ويقنع بأن دولةً صغيرةً مثل إسرائيل تنجو دائماً من أيّ عقاب، بل أن تخشى غضبها دول كبرى، وأن تعاقب هي دولاً، وتهدّد أخرى، وتضرب بقرارات المنظّمات الدولية كلّها عرض الحائط؟ أيُّ حصانة هذه؟!
هذا لا يُصدّق، لكنّه يحدُث، وعلى الفلسطيني أن ينتصر عليها، وقد فعل ولو رمزياً، فللمرّة الأولى أصبحت إسرائيل قابلةً للهزيمة. كان هذا رهان السنوار، وربّما كان انتحاراً. ولكن، هل كان يملك خياراً آخر؟
ولقائل أن يقول: إنه (السنوار)، وسواه لا يملك أن يقرّر نيابةً عن الشعب الفلسطيني، وإن ثمّة خيارات أخرى تتوافر دائماً. هؤلاء يعرفون قبل غيرهم أنهم (الإسرائيليون) لا يريدون حتى محمود عبّاس نفسه، لا يريدون الفلسطينيين إلا قتلى أو عبيداً، وكان عرفات والسنوار يعرفان ذلك أيضاً، وقد رفضاه، حتى لو عُدّ ما فعلاه انتحاراً.
