
عربي
أقرب إلى الجنون أن تصبح دعواتٌ إلى تخلي حركات المقاومة العربية عن أسلحتها مطلباً لازماً لأمن (وأمان) البلاد العربية الواقعة في فوهة بركان الإجرام الصهيوني، الممتد إلى كل عاصمة وكل مدينة عربية، بوصفه حقّاً مدعوماً بوعد إلهي، يجعل حثالة مجرمي التاريخ يمرحون في ربوع الوطن العربي وكأنه كلأ مباحٌ لقطعان الاحتلال.
يعلن غلاة الصهاينة كل يوم أن أياديهم سوف تطال كل شارع وكل بناية عربية تسمع فيها أصوات ممانعة للتغول في الجغرافيا والتاريخ العربيين لإعادة تشكيلهما على مقاسات الشرق الأوسط الإسرائيلي، فيفاجئك حكماء الرداءة والدونية والرخص الحضاري بأن الحل الوحيد هو نزع الأسلحة وتطليق مفهوم المقاومة والتكيّف مع متطلبات الكيان الصهيوني واشتراطاته. ... صيغة تشبه كثيراً الدعوة إلى أن يتحول خمسمائة مليون مواطن عربي إلى خدم وعمالة رخيصة وأفراد حراسة منخفضة الأجر لأحلام الاحتلال وطموحاته، أو فلنعش كلاباً أفضل من أن نموت أسوداً. هكذا يريدنا العدو وخدّامه من أنظمةٍ قتلت من شعوبها أضعاف أعداد شهداء الأمة في معارك الشرف، منذ ابتليت المنطقة بهذا الاحتلال اللقيط.
ينبعث فحيح المطالبين بنزع السلاح وخلع أسنان المقاومة من أن الثمن المدفوع في معارك الكرامة فادح، وأن الطريقة الوحيدة لتجنّب بطش الاحتلال هو الخضوع والإذعان، وهو منطقٌ يتجرّد تماماً من حسابات الهوية الحضارية والحقوق التاريخية والواجبات الأخلاقية التي لا تستقيم من دونها حياة الأمم، أو اعتبارات "المقدّسات والمحرّمات" بتعبير محمد حسنين هيكل في قراءته تاريخ القضية العربية في كتابه "المفاوضات السرّية بين العرب وإسرائيل"، وكأنه يرد على جماعة "الخذلانيين العرب" التي تسخر من فكرة المقاومة، وترى في إصرارها على حمل السلاح وهماً ومغامرة مجنونة، وقبل أن يستخدم لغة الأرقام يقول إن المواجهات التي تمسّكت فيها الأمة بالمقدّسات: المحرّمات، والتزمت فيها حدود الدفاع عن النفس كان حجم التكاليف وحساباتها قاطعا في نفيه الجنون والوهم والمغامرة. ويمكن الاكتفاء هنا بثلاث جبهات تتوافر الحقائق الكافية عن حجم تضحياتها: ما بين بداية المقاومة على أرض فلسطين، وهي البؤرة الساخنة للمواجهة، وحتى سنة 1993، قدّم الشعب الفلسطيني 261 ألف شهيد و 186 ألف جريح و161 ألف معوق. كما أن ما يقرب من مليونين من الفلسطينيين اضطرّوا إلى الخروج من وطنهم وتحولوا بعائلاتهم إلى لاجئين. وهؤلاء الذين خرجوا، وهم مليونان، أصبحوا خمسة ملايين وأربعمائة ألف نسمة. وما بين 1948 وحتى 1993 كانت التكاليف فادحة على أصغر بلد عربي وهو لبنان، فقد وصلت به مضاعفات الصراع العربي الإسرائيلي إلى حد الحرب الأهلية ، وخرج منها وقد قدم 90 ألف شهيد و 115 ألف جريح و9627 معوقاً واضطر 875 ألف مواطن إلى الهجرة خارج بلدهم . وما بين سنة 1948 وحتى سنة 1973 فإن أكبر البلاد العربية مصر وهو الذي تحمل - قيادة الجهد العربي الشامل ، قدم 39 ألف شهيد و 73 ألف جريح و61 ألف معوق.
تتوقّف أعداد هيكل عن عدد ضحايا المواجهة في معارك الشرف والكرامة عند 1993 عام اتفاق أوسلو الذي جاء بوعود الدولة الفلسطينية والانسحاب من الأراضي المحتلة، وعود السلام التي ثبت أنها الأوهام المكتملة، وليست المقاومة، إذ تقول مسيرة العبث التفاوضي منذ ذلك العام إن الاحتلال لم يعد يعترف بأراض فلسطينية أو شعب فلسطيني من الأساس، كما لا يعد يتحمّل أن يصفه أحد بأنه "احتلال"، إذ يسلك، قولاً وعملاً، باعتباره ملك الشرق الأوسط ومالكه الحصري وحدوده تتخطّى فلسطين ولبنان وسورية والأردن ومصر والعراق والسعودية. الشاهد أن نزيف الشهداء والضحايا لم يبدأ من عند طوفان الأقصى أو من انطلاق مشروع المقاومة اللبنانية الباسلة، ذلك أن الدم العربي يسيل منذ زرع هذا السرطان الاستيطاني في لحمنا الحي، ثم بات مطلوباً أن نكون عقلاء وحكماء وانهزاميين، ولا نفكر في مقاومة السرطان، كي يستقر هادئاً آمناً في أجسادنا وذاكرتنا، ليصبح واقعاً علينا التسليم به والتعايش معه حتى نفنى، وغير ذلك هو الانتحار، كما يريد منا السادة الذين يخفون وضاعتهم خلف أقنعة عربية ويتحدّثون بألسنة عربية فصيحة بما يريده الأعداء.
كان حرياً بهذه الأمة أن تحتفل بذكرى مرور عامين على ثورة الطوفان وصنّاعها من الشهداء، يحيى السنوار وإسماعيل هنية وحسن نصر الله ومحمد الضيف وآلاف من أبنائها، لكن هناك من أراد حشدها خلف دونالد ترامب كي يفوز بجائزة نوبل للسلام، بينما هو أحد صنّاع الحرب الإجرامية على شعوبها.
