
عربي
في تاريخ الشعوب المُستعمَرة، تصبح الحيلة خلاصًا أخيرًا من منظومة الضبط، أو ربما طوق النجاة الوحيد للتكيف تحت رادار السلطة. وكما ابتكر العاملون تحت نظام العبودية في أميركا الجديدة أغاني العمل المرمّزة للتواصل سرًا، وطوّر مقاومو الاحتلال في مناطق مختلفة من العالم شيفرات خاصة للنجاة، اخترع الفلسطينيون لغة صامتة على طرقاتهم المليئة بالحواجز الأمنية، معجمًا من الإشارات والحركات والرموز، يُحوِّل كل ومضة ضوء من مركبة قادمة إلى رسالة نجاة، وكل حركة يد إلى تحذير من خطر مقبل.
هذا التكيّف ليس مجرد استجابة عفوية لظروف صعبة، بل عقد اجتماعي محكم انتقل عبر الأجيال، يُحوِّل القمع اليومي إلى فرصة لإعادة اختراع التواصل الإنساني. على طرقات الضفة الغربية، حيث تُقاس المسافات بعدد الحواجز وليس بالكيلومترات، تشكّلت على مدى عقود منظومة معقدة من الإشارات وحركات الجسد والسلوكيات المرمّزة، تُحوِّل كل سائق إلى مراسل حرب، وكل طريق إلى شبكة اتصالات غير مرئية، وكل ضوء سيارة إلى إشارة تحذير من خطر مرتقب.
ومضة سريعة: حين يُترجم الضوء إلى تحذير
تحمل ومضة ضوء المركبة العالي المستخدم في وضح النهار دلالة واحدة لا تقبل التأويل عند الفلسطينيين، يعرفها كل سائق تنقّل بين مدن الضفة الغربية: وجود شرطة إسرائيلية على الطريق. هذه الإشارة البصرية تحوّلت عبر العقود إلى بروتوكول اتصال معترف به، يحكمه منطق واضح وردود أفعال محددة. السائق الذي يستقبل هذا التحذير الضوئي يدخل في حالة تأهب فورية. يتباطأ الأداء، تُخفى الهواتف، تُربط الأحزمة، وفي حالات كثيرة يُعاد النظر في المسار بالكامل، في خطوات محسوبة تهدف لتقليل احتمالية الاحتكاك مع نقاط التفتيش، وكما يشير سائق سيارة الأجرة على خط رام الله، وجدي فلنة، في حديثه مع "العربي الجديد"، فإن هذه الإشارة قد تحمل معاني مختلفة في وسط المدينة، لكنها على الطرق الرئيسية الأخرى بين المدن الفلسطينية، فإنها تعني أن شرطة إسرائيلية على الطريق.
أما الإشارة اليدوية، تلك الحركة السريعة من نافذة السيارة أو من خلفها نحو الأسفل، فتختص بتحذير أكثر إلحاحًا: حاجز إسرائيلي مؤقت لم يصبح مرئيًا بعد للقادمين من الاتجاه المعاكس. هنا تكمن أهمية التوقيت، فالمعلومة المبكرة تعني خيارات أكثر للتعامل مع الموقف. يقول أحد السائقين الفلسطينيين من على حاجز دير شرف قرب نابلس، في حديثه مع "العربي الجديد"، إن تلك الإشارات، تحديدًا التي يستخدمها السائقون الفلسطينيون بأيديهم، تساعده في تجنّب ساعات من الازدحام، حيث يعلم جيدًا أن عليه تغيير الطريق، طريق قد تكون وعرة وأطول في العادة من حيث الوقت، لكنها مع وجود حاجز إسرائيلي على الطريق الآخر تعني أنه تجاوز ساعات أخرى طويلة من الانتظار ومن الإذلال.
الفلاشر: طلب استغاثة صامت
في حالات أخرى، لا يكون لدى السائق سوى هذا الخيار، إذ حتى مع علمه بوجود حاجز إسرائيلي، لا توجد طرق أخرى للمرور منها. هنا، يتطلب العقد الاجتماعي ترتيب الأولويات، أي السماح لأولئك الذين يُوصلون المرضى بالمرور. يقوم السائق الذي لديه حالة طارئة بتشغيل أضواء الطوارئ "الفلاشر" عند الاقتراب من الحواجز، وهذا فعل له قواعد ومعانٍ خاصة في هذا المعجم. السائق الذي يشغل هذه الأضواء يرسل رسالة لباقي المركبات، طالبًا الاستغاثة والسماح له بالمرور عن يمين تلك السيارات، للوصول إلى الحاجز في وقت أسرع، من دون معرفة الجندي الإسرائيلي على الحاجز القريب. قد يكون في هذه الحالة مُصطحبًا مريضًا يحتاج عناية فورية، أو في وضع إنساني مستعجل. رغم أن هذه الإشارة لا تضمن السماح بالمرور في كل الأوقات، إلا أنها تحوّلت إلى طقس معترف به ضمنيًا، نوع من التفاوض الصامت بين الفلسطينيين المسيطر على تحركاتهم، لترتيب أولوية من يجب له المرور أولًا عند الحواجز الإسرائيلية، التي قد يلزم البقاء عليها ساعات طويلة.
يشير فلنة إلى أن التجاوز عن يمين أي مركبة هو فعل ممنوع في كافة الحالات، إلا لمركبات الإسعاف أو الشرطة أو الدفاع المدني، بحسب القانون، لكن وفق المتعارف عليه بين السائقين، فإن من يضيء أضواء الطوارئ "الفلاشر"، فإن هذه إشارة تعني أن السائق يحمل حالة إنسانية، هنا يقرر باقي السائقين فتح الطريق له بأمان حتى لا يتسببوا له بأي خطر، له أو لباقي السائقين، مع علمهم أن هذا "فعل غير قانوني" وفق أنظمة السير.
على حاجز دير شرف قرب نابلس، كان المشهد مرتبًا بعناية، مركبات فلسطينية تصطف على امتداد مئات الأمتار، وجندي إسرائيلي يراقب حركة المرور، يوقف من يرغب فيه من المركبات، ويمرر أخرى. من آخر الطريق، كانت مركبة فلسطينية متجهة بسرعة، تتجاوز طابور الانتظار الطويل، مع تشغيل أضواء الطوارئ، وكأنها تطلب الاستغاثة. رحلة طويلة كانت تستغرق ساعات، تجاوزها السائق، الذي يبدو أنه كان في عجلة من أمره لأسباب إنسانية، قطعها في دقائق فقط. ورغم استخدام بعض السائقين هذه الحيلة للمرور بشكل أسرع عبر الحاجز دون ظرف طارئ، إلا أنها بقيت سياسة متعارفًا عليها في شوارع الضفة الغربية.
الوقوف الجماعي: آلية دفاع تلقائية
قرب مستوطنة حلميش، على الطريق المؤدي إلى رام الله، يتوقف عشرات السائقين فجأة على يمين الشارع. لا إشارات مرورية معطلة، ولا حادث واضحًا، ولا أعمال صيانة. فقط صفوف من المركبات المتوقفة كأنها تنفّذ أمرًا عسكريًا صامتًا. هذا المشهد مألوف لكل من يقود في المناطق المصنفة "ج" أو الطرق المحاذية للمستوطنات. الوقوف الجماعي يشكّل ردة فعل دفاعي فورية على تهديد محدق: مستوطنون يرشقون المركبات بالحجارة، أو يعتدون على الركاب، أو جنود يجرون عملية عسكرية في المنطقة.
هنا لا توجد حاجة لتوضيحات أو تعليمات. السائق الأول يتوقف عند استشعار الخطر، فيتوقف الثاني خلفه، ثم الثالث، حتى تتشكل قافلة صامتة من المركبات المتوقفة. كل سائق يصبح حارسًا للآخرين، وكل توقف يشكل تحذيرًا للقادمين من الخلف. الانتظار قد يستمر دقائق أو ساعات، لكنه محسوب بعناية. لا أحد يغادر حتى يتأكد من زوال الخطر. وعندما تنطلق المركبة الأولى بعد التأكد من زوال الخطر، تنطلق البقية في تتابع منظم، كأنها تنفّذ خطة إخلاء مدروسة. في هذا السياق، يشير سائق مركبة كان موجودًا في المكان إلى أنه بات من المعروف، خصوصًا في فترات التصعيد الإسرائيلي، أن كل تجمع لمركبات فلسطينية على يمين الشارع يعني أن خطراً قريبًا في نهاية الشارع، وبالتالي عندما يرى أي سائق هذا التجمع يقف فورًا، على الأقل حتى يتأكد أن هذا التجمع لم يكن بهدف التحذير من المستوطنين.
سائقو الشاحنات: شرطة مرور تطوعية
في شبكة الطرق المزدحمة المتأثرة بكثافة الحواجز، تتحول الشاحنات من عائق مروري إلى أدوات تنظيم للحركة. سائق الشاحنة، بحكم ارتفاع مقعده وموقعه الاستراتيجي على الطريق وضخامة مركبته، يصبح العين التي ترى ما لا تراه المركبات الأصغر المحجوبة خلفه. هنا تكتسب إشارات الانعطاف "الغمازات" وظيفة جديدة تمامًا. الإشارة اليسرى تعني المنع القاطع للتجاوز - مركبات قادمة من الاتجاه المعاكس تجعل المناورة خطيرة. بينما الإشارة اليمنى تمنح الإذن بالتجاوز الآمن، إشارة واضحة إلى أن الطريق خالٍ والرؤية سليمة. هذا البروتوكول، المولود من ضرورة عملية، يُحوِّل كل سائق شاحنة إلى منظم مرور غير رسمي. يتحمّل مسؤولية سلامة عشرات السائقين خلفه، ويدير حركة التجاوز بناءً على معلومات لا يملكها غيره. إنه نموذج مصغر لكيفية تحويل القيود المفروضة إلى أنظمة تعاون تلقائية.
شبكات الرصد الرقمية: تليغرام كغرفة عمليات
لم تبقَ إشارات الطريق محصورة في اللحظة والمكان. التكنولوجيا نقلت هذا المعجم إلى مساحة أوسع وأكثر دقة، حيث تحولت مجموعات تليغرام المغلقة إلى مراكز رصد حية تعمل على مدار الساعة. هذه الشبكات مقسمة جغرافيًا بدقة: مجموعة لرصد حواجز محافظة رام الله والبيرة، أخرى لمراقبة الطرق بين وسط الضفة وجنوبها، وثالثة متخصصة في ربط شمال الضفة بباقي المناطق، وغيرها الكثير. كل مجموعة تضم مئات المتطوعين، غالبيتهم من سائقي المركبات العمومية والشاحنات، الذين يملكون معرفة تفصيلية بشبكة الطرق.
المعلومة هنا تتدفق لحظيًا: "حاجز عند زعترة"، "مستوطنون قرب حلميش"، "حاجز دير شرف مغلق"، أو حتى في بعض الأحيان من خلال ذكر اسم الحاجز ووضع علامة جانبه تشير إلى أنه مغلق، أو من خلال إرسال رسائل صوتية. اللغة مكثفة ومحددة، تركز على الموقع الدقيق ونوع التهديد ودرجة خطورته. وأيضًا تساهم في إعداد خريطة كاملة لشبكة الطرق على امتداد الضفة الغربية، تساعد باقي المركبات في تجاوز الحواجز، والتنقل بين طرق أخرى، في حال كان هذا الخيار ممكنًا، أو حتى تأجيل الرحلة في حال كانت غير ضرورية.
عقد اجتماعي متفق عليه
بُنيت هذه المعارف من خلال تراكم تجارب عقود من التعامل مع نفس المنظومة. كل سائق فلسطيني يحمل في ذاكرته خريطة معقدة للطرقات، ليس من ناحية جغرافية فقط، بل من ناحية المخاطر المحتملة، أوقات الذروة للحواجز، نقاط الخطر الثابتة، والطرق البديلة لكل احتمال. هذه المنظومة الاجتماعية تتطور باستمرار. معلومة يشاركها سائق واحد في مجموعة تليغرام تصل خلال دقائق لمئات الأشخاص، وتؤثر على قرارات مئات من السائقين الآخرين. إنه نظام إنذار مبكر غير رسمي، لكنه جزء من طريقة الفلسطينيين في التأقلم، أو "المقاومة بالحيلة" بتعبير عالم السياسة والأنثروبولوجيا الأميركي جيمس سكوت.
تقف هذه اللغة الرمزية كشكل مكثف من أشكال التكيّف مع واقع الاحتلال، وتدل على قدرة مختلفة على التعامل مع منظومة السيطرة. إنها محاولة تكيف أخيرة للبقاء، أو للصمود بلغة الفلسطينيين أنفسهم. كل إشارة في هذا المعجم تكشف عن حجم التهديد والخوف والمراقبة الدائمة التي يعيشها الفلسطيني في أبسط تحركاته. حتى القيادة من نقطة إلى أخرى، وهي عمل يومي طبيعي في أي مكان آخر، تتحول هنا إلى عملية معقدة تتطلب تخطيطًا ووعيًا ومعرفة بقواعد لعبة غير مكتوبة.

أخبار ذات صلة.

"حلم ليلة سفر"... السيطرة على الجسد المهاجر
العربي الجديد
منذ 35 دقيقة