
عربي
هذا الصيف، قدّم المخرج جيمس غن نسخةً مختلفة من "سوبرمان" أشعلت سجالاً سياسياً عابراً للثقافات. منذ طرح الفيلم عالمياً في 11 تموز/يوليو 2025، وهو يحقّق أرقاماً كبيرة (نحو 220 مليون دولار في الافتتاح) ويحتلّ واجهات النقاش العام، ليس فقط بوصفه افتتاحية عصر جديد لِـDC، بل لأنه يقدّم حكاية حربٍ تُرى بسهولةٍ بوصفها مرآةً لصورة إسرائيل في الوعي الأميركي المعاصر.
الحبكة ظاهرياً بسيطة: "بورافيا" دولة حليفة للولايات المتحدة، متفوّقة عسكرياً، تغزو جارها الأفقر "جارهانبور". يتدخّل سوبرمان لوقف المجزرة، بينما يتكشّف أن ليكس لوثر هو مهندس الحرب، يُموّل ويُحرّض لتوريط العالم والبطل في صراع يخدم مصالحه. توصيف الفيلم لبلدٍ أوروبي شرقيٍّ قوي يبطش بجارٍ منهَك، سكّانه غالبية غير بيضاء وكثير منهم مُسلمون، يضغط على أزرارٍ سياسية معاصرة حتى من دون تسميةٍ مباشرة.
غن ينفي أن قصده كان الشرق الأوسط. قبل العرض العام، قال لصحيفة "ذا تايمز" البريطانية: "حين كتبتُ الفيلم لم تكن الحرب في الشرق الأوسط دائرة… حاولتُ إبعاده عن ذلك، إنه ببساطة غزوٌ تشنّه دولة أقوى يحكمها مستبدّ على بلدٍ أضعف"؛ وهو ما أكّدته تقارير هوليوودية أشارَت إلى أن السيناريو كُتب قبل تصعيد الحرب على غزة. لكنّ النفي لم يوقف التأويل الجماهيري الذي وجد في "بورافيا/جارهانبور" استعارةً مُلحّة لإسرائيل/فلسطين.
هنا تبرز قراءة موقع "موندوويس" التي ترى في الفيلم "تثبيتاً لصورة إسرائيل بوصفها كياناً معتدياً في المخيال الأميركي". يذكّر ميتشل بليتنيك في مقاله بشعار "الحقيقة والعدالة والطريقة الأميركية" كسقفٍ أخلاقي شكّل سوبرمان قديماً، ويشير إلى أن قوة الشخصية تكمن في بداهتها الأخلاقية: حماية الضعفاء. ومن هذا المدخل يقرأ بوضوح "بورافيا" بوصفها استعارةً لإسرائيل، وجارهانبور معادلاً بصرياً وعاطفياً لفلسطين، مع ديكتاتورٍ بملامح تجمع كاريكاتورياً بين نتنياهو وبن غوريون، وعلاقةٍ وثيقةٍ بالمجمّع الصناعي العسكري الأميركي. الأهم في مقال بليتنيك ليس إثبات النيّات، بل التقاط التحوّل الثقافي: كان من المستحيل قبل وقت قصير أن تسمح هوليوود بفيلم صيفيٍّ يصوّر إسرائيل (ولو بالتورية) معتديةً مجمرة، أمّا اليوم فترى "وورنر براذرز" (المنتجة) في ذلك رهاناً مقبولاً، بعد إنفاقٍ إنتاجي وتسويقي ضخم يعكس ثقتها بجمهورٍ تغيّرت ذائقته السياسية.
ردّات الفعل عزّزت هذا الانزياح. رصدت الصحافة الأميركية انفجار سجالٍ بين مُعلّقين وسياسيين: حسن بيكر وصف الفيلم بأنّه "ساعتان وعشر دقائق من فضح إسرائيل"، بينما اعتبر بن شابيرو أن الربط "لا يطابق الوقائع" وأن لا أجندة سياسية للفيلم. على الضفة المقابلة، احتفى ناشطون بأن "الشرير" صار واضحاً في أفلام هوليوود. وبصرف النظر عن التقييمات، فإنّ مجرد انتقال النقاش من الهامش إلى التيار العام هو حدث ثقافي في حد ذاته.
وعلى مستوى الصحافة العربية والناطقة بالإنكليزية، وثّق موقع "ذا نيو أراب" تلقّي الجمهور للفيلم بوصفه "أكثر الأفلام الهوليوودية وضوحاً ضد إسرائيل حتى الآن"؛ إذ أُشير إلى تماثل أسلحة "بورافيا" مع ترسانة إسرائيلية ثقيلة، ولقطاتٍ تُذكّر بمسيرات العودة في غزة، فضلاً عن غضب الحكومة الأميركية داخل الفيلم من تدخل سوبرمان "من دون تفويض"، في إحالةٍ إلى دعم واشنطن لحلفائها رغم التكاليف الإنسانية.
هل نحن إذاً أمام تحوّلٍ في تصوير إسرائيل داخل هوليوود؟ تميل الإجابة إلى "نعم"، ليس لأن غن قرّر نقل الصراع مباشرة إلى الشاشة، بل لأن شيفرة الفيلم الأخلاقية تُقرأ اليوم على نحوٍ مختلف. منذ فيلم Exodus عام 1960، رُتّبت سردياتٌ تمجّد قيام إسرائيل وتُجمّل القوة بوصفها دفاعاً مشروعاً. "سوبرمان" لا يقدّم درساً تاريخياً، لكنه يمسّ مشاعر الجمهور إزاء القوة غير المنضبطة والتحالف مع الاستبداد، ويُعيد تعريف الإنسانية التي طالما تغنّى بها البطل. يرى بليتنيك أن الأمر يتجاوز النقد السياسي إلى ترسيخ صورةٍ جديدة: إسرائيل بوصفها قوةً محتلة، والفلسطينيون ضحايا بلا حماية؛ وحين يُطبع هذا الإدراك في مُنتَج جماهيري ضخم، يصبح جزءاً من الذائقة لا من الهامش الأكاديمي أو النضالي فحسب.
التوقيت ساعد أيضاً: افتتاحٌ قوي عزّز ثقة الاستوديو، وسجالٌ رقمي غذّى فضول جمهورٍ شاب يرى العالم بأدواتٍ مختلفة، فيما يواصل غن القول إن التشابه "مصادفة"، وإنّ الفكرة أعمّ من الشرق الأوسط. لكن، حتى لو لم يقصد الصانع مرآةً مباشرة، فالمعنى الاجتماعي يتجاوز النيّات إلى التأويل السائد. هنا تتقدّم الثقافة على السياسة: صورةُ إسرائيل تتبدّل في المخيال الأميركي، و"سوبرمان"، على خفّته، يساهم في هذا التبدّل.
الخلاصة إذاً أنّ "سوبرمان" 2025 يُثبت أن الفضاء الترفيهي صار ساحةً مركزية لإعادة تعريف الصواب الأخلاقي في قضايا الحرب والاحتلال. قد يصرّ غن على أن "كل ذلك خياليّ"، إلّا أنّ المتفرّج يرى "بورافيا" ويستحضر إسرائيل من تلقائه. وبينما تتغيّر موازين التعاطف لدى أجيالٍ أصغر، يصبح من الطبيعي أن تجد هوليوود نفسها تُنتج أفلاماً لا تخشى كسر "تابو" قديم.
