
عربي
إنَّ إعلاناً متكرراً يومياً عن عرضٍ تجاريٍّ واحد خمس سنوات، كالذي كان يُبثُّ على شاشة التلفزيون العربي السوري، سابقاً، في فترتي المساء والسهرة عن مسرحية "ليلة أُنس" - 1988، أو ذاك االذي كان يعلن عن دخول مسرحية اسمها "محطات ممنوعة" عامَها الثاني – في العام نفسه، إن أخذنا إلى مكان، فيجب أن يأخذنا إلى التساؤل عن نوع مسرح كهذا، فالإمعان والتأكيد على إعلانٍ عن حدثٍ فني ما، هو تكريسه وتفعيله بوصفه ظاهرة، بل وجهاً من وجوه الحياة والمجتمع، وقد بلغ هذا التكريس أوجه في عام 1988. لم يكن المسرح التجاري في سورية مجرّد نشاط ترفيهي عابر، بل ظاهرة اجتماعية تركت بصمةً واضحةً في حياة المدن السورية، سيما دمشق وحلب. فبينما اختص المسرح القومي بخطابٍ نخبوِي رسمي، وحرص على إنتاج عروض تحمل طابعاً أكاديمياً أو رسائلَ وطنية.
انفتح المسرح التجاري على الجمهور العريض، واستمدَّ حيويته من شباك التذاكر، وبالتالي على الربح، ومن قدرته على ملامسة حياة الناس اليومية بروح مرحة أو اجتماعية مباشرة.
كانت ملامح المسرح التجاري، كما نعرفها اليوم، قد بدأت تتبلور مع منتصف القرن العشرين. في تلك الفترة، ظهرت فرق صغيرة قادرة على التمويل الذاتي من خلال بيع التذاكر، وبدأت تضع أسماء ممثلين بارزين في الواجهة، مع نصوص محلية أو مقتبسة تخاطب وجدان المتفرج العادي وأخذ هذا المسرح بالاستشراء، حتى بلغ ذروته ما بين عامي 1987 و1988 متخذاً لنفسه هويَّةً خاصة، بما هو نوعٍ خاصٍّ من أنواع الفرجة المسرحية، الذي يضع الربح أولويَّةً له، بعيداً عن الهم الجمالي والأيديولوجي، بلغةٍ سهلةٍ قريبةٍ من العامية غالباً، وحبكات بسيطة لا تميل إلى التجريب المفرط، وكانت الكوميديا هي اللون الأبرز، لكنها لم تكن اللون الوحيد؛ فقد وُجدت أيضاً عروض اجتماعية تلامس قضايا العائلة والطبقات الوسطى، وأحياناً نصوص مأساوية مبسّطة يسهل على الجمهور متابعتها. في كل الأحوال، كان المعيار الأساسي هو "إرضاء المتفرّج"، لا مجاراة النقد الأكاديمي.
في دمشق وحلب خصوصاً، وجد المسرح التجاري جمهوره المتنوع: طلاب، موظفون، عائلات، وحتى مثقفون يبحثون عن المتعة الخفيفة بعيداً
هذا التوجه جعل المسرح التجاري عرضةً لانتقادات واسعة من النخب الثقافية، التي اتهمته بالسطحية أو اللهاث وراء الضحك السهل. غير أن هذه النظرة كثيراً ما تجاهلت وظيفته الأساسية: أن يكون مرآة لنبض الشارع، ومساحة للترفيه المشروع في بيئةٍ كانت بحاجةٍ ماسَّةٍ إلى فسحة تنفيس. وبين "النخبة" و"الجمهور"، ظل المسرح التجاري يحافظ على حضوره، بل وتمكّن في فترات معينة من التفوّق جماهيرياً على المسرح القومي الرسمي، الذي اتخذ هوية الوصفة المسرحية، ووجه خطابه إلى النخبة، كونه مسرحا غير ربحي أصولاً، وأخذ يشتبك مع الفرضيات الجمالية والثقافية النخبوية، خالقاً جمهوراً خاصاً للمسرح، الذي أخذ يبتعد عن شعبويته في مخاطبة الشرائح والمستويات الأخرى من المجتمع.
فإبَّان أيام مهرجان دمشق المسرحي الرابع، جاء في توصيات ندوة المسرح: "الامتناع عن تقديم المعونات للمسارح التجارية، والوقوف في وجه المحاولات، التي تحرف المسرح عن طريقه، تحت عنوان "الترفيه" وذلك عبر اللجوء إلى أساليب (ابتذال) تهدف للربح على حساب الفن و(الجمهور)". مع أن هذا الأخير مارس ضبطاً رقابياً وأكاديمياً فقط على عروضه، ولم يكن حينها يعيق نصوص المسرح التجاري من حيث الموافقة على النصوص، على اعتبار أنها نصوص للعرض فقط، وليست لاستبداء الرأي أو الاشتباك مع البنية الفكرية والثقافية والسياسية للمجتمع. فشاع التجاريُّ، حيث يمكن القول، بما لا ريب فيه، إن المسرح التجاري السوري ازدهر تدريجياً من عام 1970، حتى أصبح على وشك أن يصبح هو السائد، وصولاً إلى الذروة في عام 1988. ففي العام نفسه، قدم المسرح التجاري 13 عرضاً، منها: "ليلة أُنس"، "مرتي رجَّال ونص"، "زواج عسير الهضم"، "حارة الشحادين"، "الأهبل"، "مجلس العيلة المحترم"، "شي كان وشي ما كان"، "في بيتنا ولد"، وغيرها. بينما قدم المسرح القومي ثلاثة عروضٍ فقط، هي: "كلُّ شيءٍ في الحديقة"، "سكان الكهف"، "الزنزانة".
في دمشق وحلب خصوصاً، وجد المسرح التجاري جمهوره المتنوع: طلاب، موظفون، عائلات، وحتى مثقفون يبحثون عن المتعة الخفيفة بعيداً عن خطاب المسرح الرسمي. كان حضور العرض حدثاً اجتماعياً بحدِّ ذاته، وارتبط في الذاكرة بأسماء نجوم لمعوا على الخشبة وصاروا جزءاً من الحياة اليومية للمسرح السوري. هؤلاء الممثلون والمخرجون كانوا يشكلون فرقاً تتنقّل بين المسارح، وتلجأ حتى إلى صالات السينما، لتقدِّم عروضها فيها، عروضاً تمتد لأسابيع وربما أشهر، مما جعل العائد المادي جزءاً من معادلة نجاح العمل الفني.
الجمهور موجود، جاء ليتسلى، ولا يشعر بالانحدار الذي انغرس في صلب الترفيه، والربح موجود، والسلطة موجودة ورابحة، معنوياً على الأقل
حاله حال كل شيء في الحياة السوريَّة، لا يمكن أن يكون المسرح التجاري إلا خاضعاً للتحولات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية في البلاد. فمع الانكفاء القسري، الذي مورس على البرجوازية السُّورية الأصيلة والعريقة، والتي عمل البعث جاهداً على تقليص مساحاتها وظلالها من قيمٍ إنتاجية وأخلاقية عبر إيجاد برجوازيات – يمكن تسميتها: برجوازية الفساد الإداري، والقيَمي الإنتاجي - متطفلةٍ على إرثها من أخلاقٍ وتقاليدَ إنتاجية، كانت تعطي للكائن السوري ملامحه المدنيَّة والأخلاقية، ودعم تلك المُستحدثة أوتوماتيكيَّاً (كونها من نسيجه) على حساب الأولى، وجدت هذه الكيانات الاقتصادية المستحدثة في المسرح التجاري مضماراً استثمارياً مُربحاً من جهة، ومجالاً واسعاً لتملي عليه وضمنه مقولاتها الممعنة بالسخف المقصود، ومسخ الكوميديا، وصولاً إلى المباشرة والابتذال، وحتى التهريج.
الجمهور موجود، جاء ليتسلى، ولا يشعر بالانحدار الذي انغرس في صلب الترفيه، والربح موجود، والسلطة موجودة ورابحة، معنوياً على الأقل، بصناعة أفواجٍ وجموع، تبتعد تدريجياً عن النكتة الحقيقيَّة السوريَّة الذكيَّة، باتجاه التسطيح، فمن لا نكتة له، لا رونق له ولا هوية.
لعل هذا يبدو جلياً في تجربة "مسرح الشوك" 1969، الذي أسّسه الفنان عمر حجّو، وأخذ هذا المسرح على عاتقه، مع بداية السبعينيات، التي بدأ معها وهم الديمقراطية، مسؤولية المقولة التوعوية الاجتماعية، المتضمنة على نكتةٍ سياسية، أو تهكُّمٍ سياسيٍّ حذر، وكان التجربة التي أعجب بها دريد لحام وانخرط فيها، ولكن ما لبث أن تحوَّل من الحالة الواعية الناقدة، بشكلٍ تدريجي، إلى ما يشبه شكلاً من أشكال التنفيس، ولم تحمه نيَّته وكثرة العروض أو حتى الأسماء التي شاركت فيها من الوقوع في عروضه الأخيرة بفخ المباشرة، والذهاب بالنكتة السياسية حدَّ التهريج.
وكذلك "مسرح دبابيس" الذي أنشئ في بداية السبعينيات أيضاً، وقدّم عرضه الأول "دبابيس" الذي لاقى نجاحاً جماهيرياً هائلاً، وعرضه الثاني "صواريخ" الذي شارك فيها نجومٌ كبار أمثال: رفيق سبيعي، فهد كعيكاتي، أنور البابا، والإخوة قنوع المؤسسين لهذا المسرح. توالت عروضه بكثرة وعلى أغلب خشبات ومسارح وصالات سينما دمشق، وشارك معه كثيرون من نجوم التمثيل، لكن ذلك لم يحمه قط من فخ النكتة السياسية المجوَّفة، واللجوء إلى الاستعراض المقحم، عبر نساء راقصات موجودات طوال عرض مسرحية "مواويل" يشاركن حين يُبرَّر استعراضهن، ويبقين على الخشبة، حين وحيث لا دور لهن، إلا بما يشبه الملمح الجنسي للعرض. نعم، فالعرض يُمكن أن يُصوَّر ويُعلن عنه بصريَّاً، وحتى أن يُسوَّق خارج البلاد.
فرقٌ وأعمال كثيرة غرقت في ورطة المناورة السياسية عبر التهريج، ما أثر على إيقاعها الفني وأدائها، بدأت بداياتٍ حميدة، حتى أسرفت بالمستهلَك السهل والسريع، حتى الذي ابتعد منها عن "النقد السياسي"، كفرقة محمود جبر وغيرها. أكرّر: الجميع حينها، مع الانحدار السلس والتدريجي، كان رابحاً، إلا الناس، التي اضمحلت نكتتها وتسطَّحت.
ألم يقع المسرح السوري الجادّ و(النخبوي) أيضاً في فخ الابتعاد عن الناس؟ ألا يمكن أن أقدّم عرضاً مسرحياً جادّاً، لكنه يخاطب بلغته وحلوله الإخراجية والبصرية كل شرائح المجتمع؟
ابتداءً من تسعينيات القرن الماضي، ومع تسارع التحولات السياسية والاقتصادية والإعلامية، بدأ المسرح التجاري بالتراجع، ولعل من استطاع التماسك وتقديم عروض يقتصر على الفنَّانَين: محمد خير الجراح، الذي قدم عروضاً مثل "سلطان زمانو"، "السيرك الأوسط"، و"صحوة"، والفنان همام حوت، الذي قدّم عروضاً عديدة ذات طابع كوميدي ساخر، قبل عام 2011 وبعده، ولاقت دعماً ورواجاً كبيرَين، حتى أن رئيس النظام البائد، بشار الأسد، كان يحضر مسرحياته، ذات القدر العالي من السخرية اللاذعة للسلطة وللواقع السوري والعربي، ويضحك مع الضاحكين (كان يحبُّ الضَّحكَ كثيراً)، في وقتٍ كان المسرح القومي الرسمي الجاد (والنخبوي) يئن تحت وطأة عدم الدعم الإنتاجي والمادي، وشح مكافآت الممثلين والفنيين، الذين واظبوا عليه نوعاً من الإيمان بالمسرح فقط. ناهيك عن محاولات خجولة هنا وهناك.
استقطبت الدراما التلفزيونية أسماء كبيرةً وكثيرة من الممثلين والجمهور معاً، فازدادت كلفة الإنتاج وصار استئجار المسارح عبئاً ثقيلاً على الفرق الصغيرة، ناهيك عن ولوج الناس في أساليب الفرجة الحديثة، تلفزيون، فضائيات، ومؤخراً المنصات الإلكترونية. ومع اندلاع الثورة السورية عام 2011، تلقّى المسرح التجاري ضربة قاصمة: أُغلقت دور كثيرة، هاجر فنانون، وانشغل الناس بآلامهم ودمائهم، مبتعدين عن المسرح عموماً، وعن الترفيه خصوصاً.
رغم التراجع، ظل إرث المسرح التجاري السوري حاضراً في ذاكرة الأجيال. فالكثير من الفنانين الذين انتقلوا إلى الشاشة الصغيرة حملوا معهم تقاليد الأداء المسرحي المباشر، واستمرّت الكوميديا السورية، في التلفزيون مثلاً، على الإيقاع نفسه، الذي أسّسه المسرح التجاري. كما بقيت نصوص وعروض محفوظة في الأرشيف، تشهد على مرحلة كانت فيها خشبة المسرح جزءاً من الحياة اليومية، مهما اختلفت الآراء حول هذا المسرح من حيث هو نوع.
يأخذنا الكلام، شئنا أم أبينا، نحو وقفةٍ مع الذات فيما يخص المسرح عموماً، والتجاري منه خصوصاً: لا يختلف اثنان على أن المسرح هو "أبو الفنون"، ومنه انطلقت كل الفنون التي تتعلق بالأداء والفُرجة، بالتالي، بالجمهور أيضاً. ولكن، ألم يقع المسرح السوري الجادّ و(النخبوي) أيضاً في فخ الابتعاد عن الناس؟ ألا يمكن أن أقدّم عرضاً مسرحياً جادّاً، لكنه يخاطب بلغته وحلوله الإخراجية والبصرية كل شرائح المجتمع؟ ألا يمكن لخشبة المسرح أن تعود مكاناً حميماً أليفاً للناس على اختلاف ثقافاتها، لترى واقعها وحياتها، أملها وألمها، نكتتها ودموعها، ضمن قوالب لغوية وبصرية قريبة إلى القلب الجمعي والروح الجمعيَّة السوريَّة؟ وهل يتطلب هذا إلا تعاوناً مسؤولا ما بين الجهات الثقافية ورأس المال الخاص، الذي يوصف بالجبان عموماً؟
أما عن النخبة، التي أُدرِجَت بين قوسين في كذا موضع من هذا المقال، فحولها السؤال الأكبر، الذي يستحق أن تفرد لأجله مقالة منفصلة، من هي؟ هل هي وهميَّة؟ كيف فُرِزَت على أنها نخبة؟ وهل تحمَّلت عبر السنين السورية الطويلة مسؤوليّتها الأكاديمية والثقافية والوطنية والأخلاقية، أم أنها بقيت حبيسة المقاهي والبارات داخل البلاد وخارجها؟
