"كناش الحشمة".. الزعيم المخلّص أم الفرد الواعي؟
عربي
منذ أسبوع
مشاركة
في كل قبيلة ظلّ صدى يتردّد؛ رجال يكتبون القوانين ونساء يولدن ليحاكمن ويُحكمن بالصمت، حتى ظهر قادمٌ من أرض قاحلة باحثاً عن ماء لبلدته، واحة جافتها الطبيعة، ليكتشف أن العطش الأكبر ليس عطش الأرض، وإنما عطش الإنسان إلى الكرامة. توصيف يوجز مسرحية "كناش الحشمة"، التي بدأت فرقة محترف الفن الأصيل للسينما والمسرح عرضها على خشبة مسرح ابن امسيك بالدار البيضاء، في منتصف الشهر الماضي ويتواصل عرضها حتى نهاية العام في فضاءات عدّة. المسرحية المقتبسة عن نص عبد المجيد سعد الله ورؤية إخراجية لسامي سعد الله، تروي حكاية بشار الخير حين يترك بلدة أهله التي أنهكها القحط، وأباه الذي يراه رمزاً للخلاص، وأمّه الحامل بجنين "الراگد"، ليصل إلى بلدة يحكمها "العرعار". في المخيال الشعبي المغربي، "الراگد" جنين نائم، وحياة مؤجّلة، زمن معلّق بين الموت والولادة. وفي المسرحية يتحوّل إلى رمز مكثف للطاقة المكبوتة داخل المجتمع، حياة بأكملها معلّقة في رحم الأسطورة، تنتظر لحظة التحرر كي تولد. الممثل الشاب حسين أغبالو جسّد بشار الخير الذي يخوض رحلة داخلية بقدر ما هي خارجية، رحلة بحث عن معنى الحرية والكرامة، حيث تتحوّل التضحية إلى قيمة مركزية، وشرط للنضج والقيادة، لا بوصفها خسارة. الزعامة لا تأتي هبة من الخارج، وإنما من الوعي بالمسؤولية أما شخصية الأب التي أداها بوشعيب العمراني، فعبّرت عن الحكمة المتوارثة، فالأب لا يمنح الحلول الجاهزة، بل يغرس في ابنه فكرة أنّه حامل اللغز ومفتاح الخير، وأن الزعامة الحقيقية لا تأتي هبة من الخارج، وإنما من الوعي بالمسؤولية واتخاذ القرار الحر. هذه العلاقة تحيل على سؤال راهن؛ هل ما زالت مجتمعاتنا تبحث عن "الزعيم المخلّص" أم أنّ الخلاص يمر عبر وعي الفرد بقدرته على الفعل؟ الحاكم العرعار، الذي جسّده مصطفى أهنيني، يمثّل السلطة فهو يمتلك القرار ظاهرياً، لكنه عاجز عن إنزال المطر أو تحقيق الخلاص. سلطته تذكّر بالقوة الفارغة، تلك التي لا تستمد شرعيتها من العدل والحرية، وإنما من الخوف والهيمنة. في المقابل، أدت الممثلة رجاء بوحامي دورين متوازيين، وهما الأم الحامل بـ"الراگد" والابنة المحتجزة في قبة العار. هذه الازدواجية جعلت حضورها مكثفاً، إذ جسدت الأمومة والحماية من جهة، والصراع الداخلي بين الطاعة والرغبة في التحرر من جهة أخرى. جسدها على الركح صار تجسيداً لصوتين متناحرين في الذاكرة الجمعية، صوت الماضي الذي يطالب بالامتثال، وصوت الحاضر الذي يصرخ طلباً للحرية. النص الذي صاغه عبد المجيد سعد الله لا يكتفي باستدعاء الأسطورة، بل يقدّمها أداة للتحليل النفسي. "قبة العار" تتعدى كونها فضاء مغلقاً، لنراها رمزاً للسجن الاجتماعي، و"الراگد" ليس مجرد كائن أسطوري، وإنما استعارة عن عقدة فقدان الشرف واغتصاب الحرية. بين هذه الرموز تتجلى صراعات النفس البشرية، الرغبة في الحياة في مواجهة نزعة الموت والسلوك السادي وعقدة الرجولة والخوف من الفقدان، كما يوضّح مؤلف المسرحية لـ"العربي الجديد". المخرج اختار أن يحوّل الركح إلى مختبر نفسي مفتوح، حيث تتقاطع إيروس (غريزة الحياة) وتاناتوس (غريزة الموت). الإضاءة، التي أبدعها أيوب بنهباش، لم تكن مجرد أداة تقنية، وإنما لغة سردية ثانية، وظفت الظل والفراغ لإبراز الصراع الداخلي للشخصيات، فيما صاغ ياسين الزاوي فضاء بصرياً يستعيد عناصر الرحل (الخيمة، القبة، الرمل) ليحوّلها إلى علامات رمزية تتنفس بين الماضي والحاضر. الموسيقى التي صاغها توفيق بلخضر ورشيد بيضار (تنهل من الثقافة الحسانية وتلوينات عالمية) لم تكن خلفية صوتية، بل جزء من البناء الدرامي. الإيقاعات الرحلية تماهت مع النص والرموز، لتصبح الأصوات جزءاً من المطر نفسه، فحين يشتدّ الإيقاع كأن الغيث يقترب، وحين يسود الصمت كأن الانتظار يطول. في اللحظة الأخيرة من العرض، تتحرك أجساد الممثلين وكأنها تستدعي المطر من الداخل لا من السماء، ويعود "بشار الخير" إلى قبيلته برفقة الشابة التي تمردت على "كناش الحكمة"، لتدون أن المصير يعاد رسمه بقرار الحرية الفردية، ولا يكتب بيد شيخ ولا تمليه وصايا جامدة، وينزل المطر تعبيراً عن طاقة داخلية تنبع من كسر القيود واستعادة الإرادة الفردية والجماعية.

أخبار ذات صلة.

( نوافذ يمنية) محرك بحث إخباري لا يتحمل أي مسؤولية قانونية عن المواد المنشورة فيه لأنها لا تعبر عن رأي الموقع..

جميع الحقوق محفوظة 2025 © نوافذ يمنية