
عربي
يحدث أحياناً أن تقرأ جملةً عابرةً، فلا تعبّرها وأنت الشخص نفسه. هذا ما حدث معي حين قرأتُ مقدّمة فؤاد حدّاد لديوانه الذي كتبه ردّاً على النكسة، "من نور الخيال وصنع الأجيال في تاريخ القاهرة"، فلم أستطع أن أقلب الصفحة إلى غيرها بعد أن قرأت جملة والد الشعراء التي يقول فيها إنه رأى المصريين يعبرون القناة في شعب التاسع والعاشر من يونيو/ حزيران 1967.
من هنا بدأ النصر، وبدا في أفق البصيرة النافذة لمؤرّخ الوجدان المصري فؤاد حدّاد. يعترف جمال عبد الناصر بهزيمته ويعلن استقالته مساء 9 يونيو، فتنطلق شرارة المظاهرات بعد دقائق، ثمّ تشهد البلاد مظاهراتٍ حاشدةً في اليوم التالي. هل يمكن حشد شعب مهزوم لمساندة من تسبب في هزيمته؟ الإجابة "الواقعية" لا. لكن هذا ما حدث بالحرف الواحد، وشهد بصدقه من حضروه، كما ظهر الحدث في وثائق العدو نفسه فعلاً حقيقيّاً وجادّاً (وثائق الخارجية الأميركية FRUS). هذا هو وعي المصريين في هذه اللحظة، وهذا هو "الواقع" الذي أرادوه، شاءوا فشاء القدر، وتحرّك التاريخ، ولم يقف مهزوماً مرتعداً يبحث عن صيغة استسلام "واقعية"، فإذا أردت أن تختبر مدى فاعلية عبارات مثل: "لست مهزوماً ما دمت تقاوم"، لتعرف هل هي لافتات وشعارات حماسية أم واقع، فاقرأ عن هذه الأيام التي لم تنل حظّها من التوقّف والمراقبة.
كان الصراع بين حكايتَين، إحداهما جريحة حرب، والأخرى تقف على قدمَين ثابتَتين على أرضنا، تزعم أنها لا تُقهر، ومعها العالم كلّه داعما للحكاية ولأصحابها. ما يحدث الآن نفسه، الفارق أن مصر أيامنا لم تعد مصر التاسع والعاشر من يونيو وما بعدهما.
قبل أن يمر شهر على الهزيمة، وعلى ردّة فعل المصريين، كانت معركة رأس العشّ (1 يوليو)، أول احتكاك برّي بعد الحرب مباشرة، شرارة الاستنزاف، قوة صاعقة مصرية صغيرة صدّت محاولة إسرائيلية للتقدّم نحو رأس العشّ جنوبي بورسعيد، وكبّدت العدو خسائر في الأرواح، وثقتها مصادره بستة قتلى (أرشيف الأخبارJFC/ كارمل هرتسليا). وبعد ثلاثة شهور (21 أكتوبر) كانت عملية المدمّرة إيلات، أول إغراق ناجح لسفينة حربية بصواريخ سطح - سطح في التاريخ الحديث، وهي العملية التي هزّت مفاهيم التسليح البحري عالمياً بعد تدمير المدمّرة، وقتل 47 فرداً من طاقمها، وإصابة العشرات، ما جعل الحدث إشارة افتتاح لمرحلة "الاستنزاف"، بالمعنى النفسي والسياسي.
لم يتوقّف المصريون عند التاسع والعاشر من يونيو، كما لم يتوقّف الجيش المصري عند رأس العشّ وإيلات. أمّا المصريون فقد بدأت النخبُ المصرية في تصدير خطاباتٍ تهدف إلى إعادة بناء المعنى العام، بالمحاسبة والنقد والتنظيم والمطالبة بالجاهزية (لا بالانسحاب أو السلام مقابل الأرض)، وأنتجت هذه الخطابات النقدية موجات احتجاجات الطلبة والعمّال (مارس 1968).
أمّا الجيش فقد خاض معركة الاستنزاف التي لم تنل بدورها حظّها في التأريخ، وفي الدور الذي لعبته نفسياً وعسكرياً في إنهاك العدو، ما دفعه (وفق توصيات أميركية وثّقها هنري كيسنجر في مذكّراته) إلى ارتكاب عمليات غير أخلاقية لكسر إرادة المقاومة، وإشعار المصريين بأن عبد الناصر غير قادر على حمايتهم، وبأن الاستنزافَ ثمنه دماء المدنيين بل والأطفال. من هنا جاءت عمليات قصف مصنع أبو زعبل (12 فبراير/ شباط 1970) التي تركت وراءها نحو 80 شهيداً من العمّال، وقصف مدرسة بحر البقر الابتدائية (8 إبريل/ نيسان 1970) التي استشهد فيها 46 طفلاً مصرياً، ويطالبنا حلفاء العدو من "الصهاينة العرب" (الآن) بنسيانها.
هل توقّفنا؟ ولا يوماً واحداً. حتى الموافقة على خطّة روجرز بوقف إطلاق النار (7 أغسطس/ آب 1970) كانت فرصةً لتحريك "بطاريات سام" إلى الأمام، ما أعطى مظلّةً أقرب إلى القناة عشية 1973. كانت مصر واعية بموقعها في الصراع، وجادّةً في تحرّكاتها وفق هذا الوعي، وكان رجالها "مؤهلين"، ولذلك كان نصر أكتوبر 1973 نتيجةً مستحقّة، كما أن ذكراها (الآن) أول الإجابة عن سؤال: لماذا نحن مهزومون؟
